كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)

العقاب قد أتيتك به يا نبيّ الله.
{فمكث} أي: الهدهد، وقوله تعالى: {غير بعيد} صفة للمصدر، أي: مكثاً غير بعيد، فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعاً لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه، وقال له أين كنت؟ لأعذبنك عذاباً شديداً فقال له الهدهد: يا نبيّ الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى، فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه، ثم سأله فقال ما الذي أبطأك عني {فقال أحطت} أي: علماً {بما لم تحط به} أي: أنت مع اتساع علمك وامتداد ملكك، ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه، وتنبيهاً له على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه ويكون لطفاً في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم، قالوا:

وفيه دليل على بطلان قول الروافضة أنّ الإمام لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه، وقيل: الضمير في مكث لسليمان، وقيل: غير بعيد صفة للزمان أي: زماناً غير بعيد، وقرأ عاصم بفتح الكاف، والباقون بضمها، وهما لغتان إلا أنّ الفتح أشهر، {وجئتك} أي: الآن {من سبأ بنبأ} أي: خبر عظيم {يقين} أي: محقق، وقرأ أبو عمرو والبزيّ سبأ بفتح الهمزة من غير تنوين، جعلاه اسماً للقبيلة أو البقعة فمنعاه من الصرف للعلمية والتأنيث، والباقون بالجر والتنوين جعلوه اسماً للحيّ أو المكان، قال البغوي: وجاء في الحديث أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ فقال: «رجلاً كان له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة» فقال سليمان وما ذاك قال:
{إني وجدت امرأة تملكهم} وهي بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملكاً عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكاً هو آخرهم، وكان يملك أرض اليمن كلها، وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤاً لي، وأبى أن يتزوج منهم فزوجوه بامرأة من الجنّ يقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت بلقيس ولم يكن له ولد غيرها.

قال البغوي: وجاء في الحديث «أنّ أحد أبوي بلقيس كان جنياً فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك، فطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها آخرون، وملكوا عليهم رجلاً وافترقوا فرقتين كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن، ثم إنّ الرجل الذي ملكوه أساء السير في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويفجر بهنّ، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه، فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه، فأجابها، وقال: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا إياسي منك، فقالت لا أرغب عنك أنت كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني منهم، فجمعهم وخطبها إليهم، فقالوا لا نراها تفعل ذلك، فقال لهم إنها قد ابتدأتني وأنا أحبّ أن تسمعوا قولها، فجاؤها فذكروا لها قالت نعم أحببت الولد فزوجوها منه، فلما زفت إليه خرجت في أناس كثير من حشمها، فلما جاءته أسقته الخمر حتى سكر، ثم جزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلاً ورأسه منصوب على باب دارها، فعلموا أنّ تلك المناكحة كانت حيلة مكر وخديعة منها، فاجتمعوا إليها وقالوا أنت

الصفحة 53