كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)
بهذا الملك أحق من غيرك فملكوها» .
وعن الحسن عن أبي بكرة قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أهل فارس قد ملكوا عليهم امرأة قال: «لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة» وقوله {وأوتيت} يجوز أن يكون معطوفاً على تملكهم، وجاز عطف الماضي على المضارع لأنّ المضارع بمعناه، أي: ملكتهم، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال من مرفوع تملكهم، وقد معها مضمرة عند من يرى ذلك، وقوله {من كل شيء} عام مخصوص بالعقل لأنها لم تؤت ما أوتيه سليمان، فالمراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدّة {ولها عرش} أي: سرير {عظيم} أي: ضخم لم أجد لأحد مثله طوله ثمانون ذراعاً وعرضه أربعون ذراعاً وارتفاعه ثلاثون ذراعاً، مضروب من الذهب والفضة مكلل بالدرّ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والزمرّد، وقوائمه من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والزمرّد عليه سبعة أبواب على كل باب بيت مغلق.
فإن قيل: كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ وأيضاً كيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الرحمن في الوصف بالعظم؟ أجيب عن الأوّل: بأنه يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان واستعظم لها ذلك العرش، ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء يكون في العظم أبلغ مما لغيره من أبناء جنسه من الملوك، ووصف عرش الرحمن بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض.
فإن قيل: كيف خفي على سليمان تلك المملكة العظيمة مع أنّ الإنس والجنّ كانوا في طاعته فإنه عليه السلام كان ملك الدنيا كلها مع أنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام؟ أجيب: بأنّ الله تعالى أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها كماأخفى مكان يوسف على يعقوب، ولما كان الهدهد في خدمة أقرب أهل ذلك الزمان إلى الله تعالى فحصل له من النورانية ما هاله، قال مستأنفاً.
{وجدتها وقومها} أي: كلهم على ضلال كبير وذلك أنهم {يسجدون للشمس} مبتدئين ذلك {من دون الله} أي: من أدنى رتبة للملك الأعظم الذي لا مثل له {وزين لهم الشيطان أعمالهم} أي: هذه القبيحة حتى صاروا يظنونها حسنة، ثم تسبب عن ذلك أنه أعماهم عن طريق الحق فلهذا قال {فصدّهم عن السبيل} أي: الذي لا سبيل إلى الله غيره، وهو الذي بعث به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، ثم تسبب عن ذلك ضلالهم فلهذا قال {فهم} أي: بحيث {لا يهتدون} أي: لا يوجد لهم هدى بل هم في ضلال صرف وعمى محض.
{ألا يسجدوا لله} أي: أن يسجدوا له، فزيدت لا وأدغم فيها نون أن، كما في قوله تعالى: {لئلا يعلم أهل الكتاب} (الحديد: 29)
والجملة في موضع مفعول يهتدون بإسقاط إلى، هذا إذا قرئ بالتشديد وهي قراءة غير الكسائي، وأمّا الكسائي: فقرأ بتخفيف ألا فألا فيها تنبيه واستفتاح وما بعدها حرف نداء ومناداه محذوف كما حذفه من قال:
*ألايا اسلمى يا دار ميّ عليّ البلى ... ولا زال منهلاً بجرعاتك القطر*
ويقف الكسائي على ألا، وعلى يا، وعلى اسجدوا، وإذا ابتدأ اسجدوا ابتدأ بالضم، ثم وصف الله تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من الاتصاف بكمال القدرة والعلم حثاً على
الصفحة 54
604