كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)

إلى النار} (القصص: 41)
{ومثلاً} أي: حديثاً عجيب الشأن سائراً سير المثل {للآخرين} أي: الذين خلفوا بعدهم من زمنهم إلى آخر الدهر فيكون حالهم عظة لناس وإضلالاً لآخرين فمن أريد به الخير وفق لمثل خير يرده عن غيه، ومن أريد به الشر اقتدى به في الشر، وقرأ حمزة والكسائي: بضم السين واللام والباقون بفتحهما، فأما الأولى: فتحتمل ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه جمع سليف كرغيف ورغف وسمع القاسم بن معن من العرب: سليف من الناس كالفريق منهم، والثاني: أنه جمع سالف كصابر وصبير، والثالث: أنها جمع سلف كاسد وأسد، وأما الثانية: فتحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يكون جمعاً لسالف كحارس وحرس وخادم وخدم وهذا في الحقيقة اسم جمع لا جمع تكسير إذ ليس في أبنية التكسير صيغة فعل، والثاني: أنه مصدر يطلق على الجماعة تقول سلف الرجل يسلف سلفاً أي: تقدم والسلف كل شيء قدمته من عمل صالح أو قرض وسلف الرجل آباؤه المتقدمون والجمع أسلاف وسلاف، وقال طفيل: سلفوا سلفاً فصد السبيل عليهم صروف المنايا والرجال تغلب واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
{ولما ضرب ابن مريم مثلاً} فقال ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين: نزلت في مجادلة عبد الله بن الزبعرى مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى عليه السلام لما نزل قوله تعالى {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} كما تقدم في سورة الأنبياء والمعنى: ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلاً وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه {إذا قومك} أي: من قريش {منه} أي: من هذا المثل {يصدون} أي: يرفع لهم ضجيج فرحاً بسبب ما رأوا من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم فإن العادات قد جرت بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج، وقال قتادة: يقولون ما يريد محمد منا إلا أن نعبده ونتخذه إلهاً كما عبدت النصارى عيسى.
{وقالوا آلهتنا} أي: التي نعبدها من الأصنام {خير أم هو} قال قتادة: يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم فنعبده ونطيعه ونترك آلهتنا، وقال السدي وابن زيد: يعنون عيسى عليه السلام قالوا: توهم محمد أن كل ما نعبد من دون الله فهو في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة في النار قال الله تعالى: {ما ضربوه} أي: المثل {لك إلا جدلا} أي: خصومة بالباطل لعلمهم أن لفظ ما لغير العاقل فلا يتناول من ذكروه {بل هم قوم} أي: أصحاب قوة على القيام فيما يحاولونه {خصمون} أي: شديدُ الخصام.
روى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال» . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم يصدون بكسر الصاد، والباقون بضمها وهما بمعنى واحد يقال صد يصد ويصد كعكف يعكف ويعكف وعرش يعرش ويعرش، وقيل: الضم من الصدود وهو الإعراض، وقرأ الكوفيون: آلهتنا بتحقيق الهمزتين، والباقون بتسهيل الثانية واتفقوا على إبدال الثانية ألفاً، ثم إنه تعالى بين أن عيسى عبد من عبيده الذين أنعم عليهم بقوله تعالى:
{إن} أي: ما {هو} أي: عيسى عليه السلام {إلا عبد} أي: وليس هو بإله {أنعمنا} أي: بما لنا من العظمة {عليه} أي: بالنبوة والإقدار على

الصفحة 569