كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)
عن أذى أو نحو ذلك: وقيل: هو كالإبريق إلا أنه لا عروة له، وقيل: إنه لا خرطوم له، وقيل: إنه لا عروة له ولا خرطوم معاً قال الجواليقي: ليتمكن الشارب من أين شاء فإن العروة تمنع من ذلك وقال عدي:
*متكئاً تصفق أبوابه ... يطوف عليه العبد بالكوب*
ثم إنه تعالى لما ذكر التفصيل ذكر بياناً كلياً فقال {وفيها} أي: الجنة {ما تشتهي الأنفس} من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة جزاء لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا {وتلذ الأعين} أي: من الأشياء المبصرة التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق.
روي أن رجلاً قال: «يا رسول الله أفي الجنة خيل فإني أحب الخيل فقال: إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت، فقال أعرابي: يا رسول الله أفي الجنة إبل فإني أحب الإبل فقال: يا أعرابي إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك» وقرأ نافع وابن عامر وحفص بهاء بعد الياء بإثبات العائد على الموصول كقوله تعالى: {الذي يتخبطه الشيطان من المس} والباقون بغيرها بعد الياء كقوله تعالى: {أهذا الذي بعث الله رسولاً} وهذه القراءة مشبهة بقوله تعالى: {وما عملته أيديهم} وهذه الهاء في هذه السورة رسمت في مصاحف المدينة والشام وحذفت من غيرها، وقد وقع لأبي عبد الله الفاسي شارح القصيدة وهم فسبق قلمه فكتب الهاء منه محذوفة في مصاحف المدينة والشام مثبوتة في غيرها فعكس.
ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالدوام قال تعالى عائداً إلى الخطاب لأنه أشرف وأكد {وأنتم فيها خالدون} لبقائها وبقاء كل ما فيها فلا كلفة عليهم أصلاً من خوف من زوال ولا خوف من فوات. ثم أشار إلى فخامتها بأداة البعد فقال تعالى:
{وتلك الجنة} أي: العالية المقام {التي أورثتموها} شبه جزاء العمل بالميراث لأنه يخلفه عليه العامل، وقرأ أبو عمرو وهشام وحمزة والكسائي بإدغام الثاء المثلثة في المثناة وأظهرها الباقون {بما} أي: بسبب ما {كنتم تعملون} أي: مواظبين على ذلك لا تفترون لأن العمل كان لهم كالجبلة التي جبلوا عليها فالمنة لربهم في الحقيقة بما زكى لهم أنفسهم.
ولما ذكر سبحانه الطعام والشراب ذكر الفاكهة فقال:
{لكم فيها فاكهة} أي: ما يؤكل تفكهاً وإن كان لحماً وخبزاً {كثيرة} ودل على الكثرة وعلى دوام النعمة بقصد التفكه لكل شيء فيها بقوله تعالى: {منها} أي: لا من غيرها مما يلحظ فيه القوت {تأكلون} فلا تنفد أبداً ولا تتأثر بأكل الآكلين لأنها على صفة الماء النابع لا يؤخذ منها شيء إلا خلف مكانه مثله في الحال، ورد في الحديث: «أنه لا ينزع رجل ثمرة إلا نبت مكانها مثلاها» .
تنبيه:
لما بعث الله تعالى نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام إلى العرب وكانت في ضيق شديد بسبب المأكول والمشروب والفاكهة ذكر الله تعالى هذه المعاني مرة بعد أخرى تكميلاً لرغباتهم وتقوية لدواعيهم ومِنْ في قوله تعالى {منها تأكلون} تبعيضية أو ابتدائية وقدم الجار لأجل الفاصلة.
ولما ذكر سبحانه الوعد أردفه بالوعيد على الترتيب المستمر في القرآن فقال تعالى:
{إن المجرمين} أي: الراسخين في قطع ما أمر الله به أن يوصل {في عذاب جهنم}
الصفحة 573
604