كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)

{وإني عذت} أي: اعتصمت وامتنعت {بربي} الذي رباني على ما اقتضاه لطفه وإحسانه إلي {وربكم} الذي أعاذني من تكبركم وقوة مكَّنتكم {أن ترجمون} أي: أن يتجدد في وقت من الأوقات قتل منكم لي فإني قلت: إني أخاف أن يقتلون فقال تعالى {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا} (القصص: 35)
فمن أعظم آياتي أن لا تصلوا مع قوتكم وكثرتكم إلى قتلي مع أنه لا قوة لي بغير الله الذي أرسلني، وقال ابن عباس: أن ترجمون بالقول وهو الشتم وتقولوا: هو ساحر، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي عذت بإدغام الذال في التاء، والباقون بالإظهار، وقرأ ورش بإثبات الياء بعد النون في ترجمون في الوصل دون الوقف، والباقون بغير ياء وقفاً وصلاً وكذلك فاعتزلون الآتي.

ولما كان التقدير فإن آمنتم بذلك وسلمتم لي أفلحتم عطف عليه قوله تعالى:
{وإن لم تؤمنوا لي} أي: تصدقوا لأجل ما أخبرتكم به {فاعتزلون} أي: كونوا بمعزل مني لا عليّ ولا ليّ فلا تتعرضوا إلي بسوء فإنه ليس جزاء دعائكم إلى ما فيه فَلا حُكم، والفاء في قوله تعالى:
{فدعا} تدل على أنه متصل بمحذوف قبله وتأويله أنهم كفروا ولم يرضوا فدعا موسى عليه السلام {ربه} الذي أحسن إليه سياسته وسياسة قومه ثم فسر ما دعا بقوله: {أن هؤلاء} أي: الحقيرين الأذلين الأرذلين {قوم} لهم قوة على القيام فيما يحاولونه {مجرمون} أي: موصوفون بالعراقة في قطع ما أمرت به أن يوصل، فإن قيل: الكفر أعظم حالاً من الجرم فما السبب في أنه جعل الكفار مجرمين حين أراد المبالغة في ذمهم؟ أجيب: بأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً في دينه والفاسق في دينه، أخس الناس. ثم تسبب عن دعائه لأنه ممن يستجاب دعاؤه قوله تعالى:

{فأسر بعبادي} أي: بني إسرائيل الذين أرسلناك لإسعادهم باستنقاذهم ممن يظلمهم وتفريغهم لعبادتي وقوله تعالى: {ليلاً} نصب على الظرفية، والإسراء: سير الليل، فذكر الليل تأكيد بغير اللفظ وإنما أمره بالسير بالليل لأنه أوقع بالقبط موت الإبكار ليلاً فأمر موسى أن يخرج بقومه في ذلك الوقت خوفاً من أن يموتوا مع القبط.
ولما علم الله تعالى أنهم إن تأخروا إلى أن يطلع الفجر ويرتفع عنهم الموت منعوهم الخروج وإن تأخروا إلى آخر الليل أدركوهم قبل الوصول إلى البحر فقتلوهم، علل هذا الأمر بقوله مؤكداً له لأن حال القبط عندما أمرهم بالخروج كان حال من لا يتهيأ له الخروج في قوله: {إنكم متبعون} أي: مطلوبون بغاية الجهد من عدوكم فلا يغرنكم ما هم فيه عند أمركم بالخروج من الجزع من إقامتكم بين أظهرهم وسؤالهم لكم في الخروج عنهم بسبب وقوع الموت الناشئ فيهم، فإن القلوب بيد الله تعالى فهو ينسي قلب فرعون بعد رؤية هذه الآيات حين يرتفع عنهم الموت ويفرغون من دفن موتاهم فيطلبكم لما دبرته في القدم من سياستكم بإغراقهم أجمعين ليظهر مجدي بذلك وأدفع عنكم روع مدافعتهم، فإني أعلم أنه لا قوة لكم ولا طاقة بكم فلم أكلفكم بمباشرة شيء من أمرهم، وقرأ نافع وابن كثير فاسر بوصل الهمزة بعد الفاء، والباقون بقطعها، قال الزمخشري: وفيه وجهان إضمار القول بعد الفاء أي: فقال اسر بعبادي، وجواب شرط مقدر كأنه قال: إن كان الأمر كما تقول: فأسر بعبادي، قال أبو حيان: وكثيراً

الصفحة 584