كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)

ما يدعى حذف الشرط ولا يجوز إلا لدليل واضح كأن يتقدمه الأمر أو ما أشبهه يقال: سرى وأسرى لغتان.

ولما أمر بالإسراء أمر بما يفعل فيه فقال تعالى:
{واترك البحر} أي: إذا سريت بهم وتبعك العدو ووصلت بعد إليه وأمرناك بضربه لينفتح لتدخلوا فيه فدخلتم ونجيتم {رهواً} بعد خروجكم منه بأجمعكم وفي الرهو وجهان أحدهما: أنه الساكن أي: اتركه ساكناً قال الأعشى:

*يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل*
أي: مشياً ساكناً على هينه قاراً على حاله بحيث يبقى المرتفع من مائه مرتفعاً، والمنخفض منخفضاً كالجدار، وطريقه الذي سرتم به يابساً ذا سير سهل على الحالة التي دخلتم فيها لأن موسى لما جاوز البحر أراد أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق، فأمر أن يتركه ساكناً على هيئته قاراً على حاله ليدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله تعالى عليهم، والثاني: أن الرهو الفجوة الواسعة وعن بعض العرب أنه رأى جملاً فالجاً فقال: سبحان الله رهو بين سنامين أي: اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً {إنهم جند مغرقون} أي: متمكنون في هذا الوصف وإن كان لهم وصف القوة والتجمع الذي محطه النجدة الموجبة للعلو في الأمور.
ولما أخبر تعالى عن غرقهم أخبر عن متخلفهم بقوله تعالى:
{كم تركوا} أي: كثيراً ترك الذين سبق الحكم بإغراقهم فغرقوا {من جنات} أي: بساتين هي في غاية ما يكون من طيب الأرض وكثرة الأشجار وزكاء الثمار والنبات وحسنها الذي يستر الهموم ودل على كرم الأرض بقوله تعالى: {وعيون} {وزروع} أي: ما هو دون الأشجار، وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بكسر العين والباقون بضمها ثم أخبر عن منازلهم بقوله تعالى: {ومقام كريم} أي: مجلس شريف هو أهل لأن يقوم الإنسان فيه لأنه في النهاية فيما يرضيه.
{ونعمة} وهي اسم للتنعم بمعنى الترفيه والعيش اللين الرغد {كانوا فيها} أي: دائماً {فاكهين} أي: فعلهم في عيشهم فعل المتفكه المترفه لا فعل من يضطر إلى إقامة نفسه وقوله تعالى:
{كذلك} خبر لمبتدأ مضمر أي: الأمر كما أخبرنا به من تنعيمهم وإخراجهم وإغراقهم وأنهم تركوا جميع ما كانوا فيه لم يغن عنهم شيء منه فلا يغتر أحد بما ابتليناه من النعم لئلا نصنع به من الإهلاك ما صنعنا بهم وقوله تعالى: {وأورثناها} أي: تلك الأمور العظيمة عطف على تركوا {قوماً} أي: ناساً ذوي قوة في القيام على ما يحاولونه وحقق أنهم غيرهم تحقيقاً لإغراقهم بقوله تعالى: {آخرين} ليسوا منهم في شيء وهم بنو إسرائيل وقيل: غيرهم لأنهم لم يعودوا إلى مصر بل سكنوا الأرض المقدسة.

ولما سكن القوم الآخرون بمصر ورثوا كنوزها وأموالها ونعمها ومقامها الكريم وقوله تعالى:
{فما بكت عليهم السماء والأرض} مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم لهوانهم، وإذا لم تبك المساكن فما ظنك بالساكن الذي هو فيها تقول العرب: إذا مات رجل خطير في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح وأظلمت له الشمس قال الفرزدق:
*فالشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمر*
وقالت الخارجية:

الصفحة 585