كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)
كانوا} أي: جبلة وطبعاً {مجرمين} أي: عريقين في الإجرام فليحذر هؤلاء إن ارتكبوا مثل أفعالهم من مثل حالهم.
ولما أنكر تعالى على كفار مكة قولهم، ووصفهم بأنهم أضعف ممن كان قبلهم، ذكر الدليل القاطع على صحة القول بالبعث والقيامة فقال تعالى:
{وما خلقنا السموات} أي: على عظمها واتساع كل واحدة منها واحتوائها لما تحتها وجمعها لأن العمل كلما زاد كان أبعد عن العبث.
ولما كان الدليل على تطابق الأرض دليلاً دقيقاً وحدها بقوله تعالى: {والأرض} أي: على ما فيها من المنافع {وما بينهما} أي: النوعين وبين كل واحدة منهما وما يليها {لاعبين} أي: على ما لنا من العظمة التي يدرك من له أدنى عقل تعاليها عن اللعب لأنه لا يفعله إلا ناقص، ولو تركنا الناس يبغي بعضهم على بعض كما تشاهدون ثم لا نأخذ لضعيفهم بحقه من قويهم لكان خلقنا لهم لعباً بل اللعب أخف منه، ولم نكن على ذلك التقدير مستحقين للصفة القدسية وقد تقدم تقرير هذا الدليل في أول سورة يونس وفي آخر سورة المؤمنين عند قوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} (المؤمنون: 115)
وفي ص عند قوله تعالى {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً} (ص: 28) .
{ما خلقناهما} أي: السموات والأرض مع ما بينهما وقوله تعالى: {إلا بالحق} حال إما من الفاعل وهو الظاهر، وإما من المفعول أي: إلا محقين في ذلك يستدل به على وحدانيتنا وقدرتنا وغير ذلك، أو متلبسين بالحق {ولكن أكثرهم} أي: هؤلاء الذين أنت بين أظهرهم وهم يقولون: {إن هي إلا موتتنا الأولى} وكذا من نحا نحوهم {لا يعلمون} أي: إنا خلقنا الخلق بسبب إقامته الحق عليهم فهم لأجل ذلك يجترؤون على المعاصي ويفسدون في الأرض لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً، ولو تذكروا ما ذكرناه في جبلاتهم لعلموا علماً ظاهراً أنه الحق الذي لا معدل عنه، كما يتولى حكامهم المناصب لأجل إظهار الحكم بين رعاياهم ويشترطون الحكم بالحق ويؤكدون على أنفسهم أنهم لا يتجاوزونه.
ولما ذكر الدليل على إثبات البعث والقيامة ذكر عقبه يوم الفصل فقال تعالى:
{إن يوم الفصل} أي: يوم القيامة يفصل الله تعالى فيه بين العباد، قال الحسن: سمي بذلك؛ لأن الله تعالى يفصل فيه بين أهل الجنة والنار، وقيل: يفصل فيه بين المؤمن وما يكرهه وبين الكافر وما يريده {ميقاتهم} أي: وقت موعدهم الذي ضرب لهم في الأزل وأنزلت فيه الكتب على ألسنة الرسل {أجمعين} لا يتخلف عنه أحد ممن مات من الجن والأنس والملائكة وجميع الحيوانات وقوله تعالى:
{يوم لا يغني} أي: بوجه من الوجوه بدل من يوم الفصل، أو منصوب بإضمار أعني، أو صفة لميقاتهم، ولا يجوز أن ينتصب بالفصل نفسه لما يلزم من الفصل بينهما بأجنبي وهو ميقاتهم {مولى} أي: من قرابة أو غيرها {عن مولى} بقرابة أو غيرها أي: لا يدفع عنه {شيئاً} من الأشياء كثر أو قل {ولا هم} أي: القسمان {ينصرون} أي: ليس لهم ناصر يمنعهم من عذاب الله تعالى.
تنبيه: المولى إما في الدين، أو في النسب، أو العتق، وكل هؤلاء لا يسمون بالمولى فلما لم تحصل النصرة منهم فأن لا تحصل ممن سواهم أولى، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً} إلى قوله تعالى {ولا هم ينصرون} (البقرة: 48)
وقال الواحدي: المراد بقوله تعالى: {مولى عن مولى} الكفار
الصفحة 588
604