كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)

الكلام الذي على سبيل التهكم أغيظ للمستهزأ به ومثله قول جرير لشاعر سمى نفسه زهرة اليمن:
*ألم يكن في رسوم قد رسمت بها ... من كان موعظة يا زهرة اليمن*
وكان هذا الشاعر قد قال:
*أبلغ كليباً وأبلغ عنك شاعرها ... أني الأعز وأني زهرة اليمن*
ويقال لهم:
{إن هذا} أي: الذي ترون من العذاب {ما كنتم به} أي: جبلة وطبعاً {تمترون} أي: تعالجون أنفسكم وتحملونها على الشك فيه وتردونها عما لها من الفطرة الأولى من التصديق بالممكن لاسيما من جرب صدقه وظهرت خوارق العادات على يده بحيث كنتم لشدة ردكم له كأنكم تخصونه بالشك.

ولما ذكر سبحانه وتعالى وعيد الكفار أردفه بآيات الوعد فقال:
{إن المتقين} أي: العريقين في هذا الوصف {في مقام} أي: موضع إقامة لا يريد الحال فيه تحولاً عنه {أمين} أي: يأمن صاحبه فيه من كل ما لا يعجبه، وقرأ نافع وابن عامر بفتح الميم أي: في مجلس أمين، والباقون بضمها على المصدر أي: في إقامة وقوله تعالى:
{في جنات} أي: بساتين تقصر العقول عن إدراك كل وصفها، بدل من قوله تعالى في مقام أمين أو خبر ثان وقرأ {وعيون} ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بكسر العين، والباقون بضمها.
ولما كان لا يتم العيش إلا بكسوة البدن أشار إلى ذلك بقوله تعالى:

{يلبسون} ودل على الكثرة جداً بقوله تعالى: {من سندس} وهو ما رق من الحرير يعمل وجوهاً {وإستبرق} هو ما غلظ منه يعمل بطائن، وسمي بذلك: لشدة بريقه وقوله تعالى: {متقابلين} أي: في مجلسهم ليستأنس بعضهم ببعض حال وقوله: {يلبسون} حال من الضمير المستكن في الجار أو خبر ثان فيتعلق الجار به أو مستأنف، فإن قيل: الجلوس على هذه الهيئة موحش لأن كل واحد منهم يصير مطلعاً على ما يفعل الآخر وأيضاً فقليل الثواب إذا طلع على كثيره ينغص عليه؟ أجيب: بأن أحوال الآخرة ليست كأحوال الدنيا وقد قال تعالى {ونزعنا ما في صدورهم من غل} (الأعراف: 43)

وقوله تعالى:
{كذلك} يجوز فيه وجهان؛ أحدهما: النصب نعتاً لمصدر أي: نفعل بالمتقين فعلاً كذلك أي: مثل ذلك الفعل، ثانيهما: الرفع على خبر مبتدأ مضمر أي: الأمر كذلك.
ولما كان ذلك لا يتم السرور به إلا بالأزواج قال تعالى: {وزوجناهم} أي: قرناهم كما تقرن الأزواج وليس المراد به العقد لأن فائدة العقد الحل والجنة ليست بدار تكليف من تحليل أو تحريم {بحور} أي: جوار بيض حسان نقيات الثياب {عين} أي: واسعات الأعين قال البيضاوي: واختلف في أنهن نساء الدنيا أو غيرهن.
ولما كان الشخص في الدنيا يخشى كلف النفقات وصف ما هنالك من سعة الخيرات فقال تعالى:
{يدعون} أي: يطلبون طلباً هو غاية المسرة {فيها} أي: الجنة أي: يؤتون {بكل فاكهة} أي: لا يمتنع عليهم صنف من الأصناف لبعد مكان ولا فقدان ولا غير ذلك من الشأن، وفي ذلك إيذان بأنه مع سعته ليس فيه شيء لإقامة البنية وإنما هو للتفكه والتلذذ حال كونهم مع ذلك {آمنين} في غاية الأمن من كل مخوف.

{لا يذوقون فيها} أي: الجنة {الموت} لأنها دار خلود لا دار فناء وقوله تعالى {إلا الموتة الأولى} فيه أوجه؛ أحدها: أنه استثناء منقطع أي: لكن

الصفحة 590