كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)
بوعيد عظيم لهم فقال تعالى:
{ويل لكل أفاك} أي: مبالغ في صرف الحق عن وجهه {أثيم} أي: مبالغ في اكتساب الإثم وهو أن يبقى مصراً على الإنكار والاستكبار، قال المفسرون: يعني النضر ابن الحارث والآية عامة فيمن كان موصوفاً بهذه الصفة وفسر هذا بقوله تعالى:
{يسمع آيات الله} أي: دلالات الملك الأعظم الظاهرة حال كونها {تتلى عليه} بجميع ما فيها وهي القرآن من سهولة فهمها وعذوبة ألفاظها وظهور معانيها وجلالة مقاصدها مع الإعجاز وهي القرآن العظيم، فكيف إذا كان التالي أشرف الخلق، وقرأ حمزة والكسائي بإمالة محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح {ثم يصر} أي: يدوم دواماً عظيماً على قبح ما هو فيه حال كونه {مستكبراً} أي: طالباً للكبر عن الإذعان وموجداً له {كأن} أي: كأنه {لم يسمعها} أي: حاله عند السماع وقبله وبعده على حد سواء {فبشره} أي: على هذا الفعل الخبيث {بعذاب أليم} أي: مؤلم، والبشارة على الأصل أو التهكم، وقرأ ابن كثير وحفص {أليم} بالرفع والباقون بالجر.
{وإذا علم} أي: بلغه {من آياتنا} أي: القرآن {شيئاً} وعلم أنه من آياتنا {اتخذها هزواً} أي: مهزواً بها.
تنبيه: في الضمير المؤنث وجهان؛ أحدهما: أنه عائد على {آياتنا} يعني القرآن، والثاني: أنه يعود على {شيئاً} وإن كان مذكراً لأنه بمعنى الآية كقول أبي العالية:
*نفسي بشيء من الدنيا معلقة ... الله والقائم المهدي يكفيها*
لأنه أراد بشيء جاريةً يقال لها: عنبة، والمعنى: اتخذ ذلك الشيء هزواً إلا أنه تعالى قال: {اتخذها} للإشعار بأن هذا الرجل إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بذلك الواحد وقوله تعالى {أولئك لهم عذاب مهين} أي: ذو إهانة إشارة إلى معنى {كل أفاك أثيم} (الشعراء: 222)
ليدخل فيه جميع الأفاكين، فحمل أولاً على لفظها فأفراد ثم على معناها فجمع كقوله تعالى {كل حزب بما لديهم فرحون} (الروم: 32)
ثم وصف تعالى كيفية ذلك العذاب فقال:
{من ورائهم} أي: أمامهم لأنهم في الدنيا {جهنم} قال الزمخشري: والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام قال:
*أليس ورائي إن تراخت منيتي ... أدبّ مع الولدان أزحف كالنسر*
ومنه قوله تعالى {من ورائهم} أي: من قدامهم ا. هـ ثم بين تعالى أن ما سلكوه في الدنيا لا ينفعهم بقوله تعالى: {ولا يغني} أي: ولا يدفع {عنهم ما كسبوا} من الأموال في رحلهم ومتاجرهم والأولاد {شيئاً} من الإغناء. وقوله تعالى: {ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء} أي: من الأوثان عطف على {ما كسبوا} و {ما} فيهما إما مصدرية، أو بمعنى الذي أي: لا يغني عنهم كسبهم ولا اتخاذهم أو الذي كسبوه ولا الذي اتخذوه {ولهم عذاب عظيم} أي: لا يدع جهة من جهاتهم ولا زماناً من أزمانهم ولاعضواً من أعضائهم إلا ملأه، فإن قيل: قال تعالى في الأول {مهين} وفي الثاني {عظيم} فما الفرق بينهما؟ أجيب: بأن كون العذاب مهيناً يدل على حصول العذاب مع الإهانة، وكونه عظيماً يدل على كونه بالغاً إلى أقصى الغايات في الضرر وقوله تعالى:
{هذا هدى} إشارة إلى القرآن يدل عليه قوله تعالى {والذين كفروا بآيات ربهم} هي القرآن أي: هذا القرآن كامل في الهداية
الصفحة 594
604