كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)

يستعجلون بجهلهم العذاب، قال ابن عادل: وهذه الآية تبطل قول من قال لا نعمة لله على كافر.
{وإن ربك} أي: والحال أنه {ليعلم ما تكنّ} أي: تضمر وتسرّ وتخفي {صدورهم} أي: الناس كلهم فضلاً عن قومك {وما يعلنون} أي: يظهرون من عداوتك وغيرها فيجازيهم على ذلك.
{وما من غائبة في السماء والأرض} أي: في أيّ موضع كان منهما، وأفردهما دلالة على إرادة الجنس الشامل لكل فرد تنبيه: في هذه التاء قولان: أحدهما: أنها للمبالغة كراوية وعلاّمة في قولهم ويل للشاعر من راوية السوء، كأنه تعالى قال وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله تعالى، والثاني: أنها كالتاء الداخلة على المصادر نحو العاقبة والعافية، قال الزمخشريّ: ونظيرها الذبيحة والنطيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات {إلا في كتاب} هو اللوح المحفوظ كتب فيه ذلك قبل إيجاده لأنه لا يكون شيء إلا بعلمه وتقديره {مبين} أي: ظاهر لمن ينظر فيه من الملائكة، ولما تمم تعالى الكلام في إثبات المبدأ والمعاد ذكر بعده ما يتعلق بالنبوّة بقوله تعالى:

{إنّ هذا القرآن} أي: الآتي به هذا النبيّ الأميّ الذي لم يعرف قبله علماً ولا خالط عالماً {يقص على بني إسرائيل} أي: الموجودين في زمان نبينا صلى الله عليه وسلم {أكثر الذي هم فيه يختلفون} أي: من أمر الدين وإن بالغوا في كتمه كقصة الزاني المحصن في إخفائهم أنّ حدّه الرجم، وقصة عزيز والمسيح، وإخراج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مما في توراتهم فصح بحقيقته على لسان من لم يلمّ بعلم قط نبوّته صلى الله عليه وسلم لأنّ ذلك لا يكون إلا من عند الله، ثم وصف تعالى فضل هذا القرآن بقوله تعالى:

{وإنه لهدى} أي: من الضلالة لما فيه من الدلائل على التوحيد والحشر والنشر والنبوّة وشرح صفات الله تعالى {ورحمة} أي: نعمة وإكرام {للمؤمنين} أي: الذين طبعهم على الإيمان فهو صفة لهم راسخة كما أنه للكافرين وقر في آذانهم وعمى في قلوبهم، ولما ذكر تعالى دليل فضله أتبعه دليل عدله بقوله تعالى:
{إن ربك} أي: المحسن إليك بما لم يصل إليه أحد {يقضي بينهم} أي: بين جميع المختلفين {بحكمه} أي: الذي هو أعدل حكم وأتقنه وأنفذه، فإن قيل: القضاء والحكم شيء واحد فقوله تعالى: {يقضي بينهم بحكمه} أي: بما يحكم به كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه؟ أجيب: بأنّ معنى قوله تعالى: {بحكمه} أي: بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكماً أو أراد بحكمته {وهو} أي: والحال أنه هو {العزيز} أي: فلا يردّ له أمر {العليم} فلا يخفى عليه سرّ ولا جهر، فلما ثبت له تعالى العلم والحكمة والعظمة والقدرة تسبب عن ذلك قوله تعالى:

{فتوكل على الله} أي: ثق به لتدع الأمور كلها إليه وتستريح من تحمل المشاق وثوقاً بنصره، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنك على الحق المبين} أي: البين في نفسه الموضح لغيره فصاحب الحق حقيق بالوثوق بحفظ الله تعالى ونصره وقوله تعالى:
{إنك لا تسمع الموتى} تعليل آخر للأمر بالتوكل من حيث إنه يقطع طمعه من معاضدتهم، وإنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله تعالى: {ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} أي: معرضين، فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: {ولوا مدبرين} أجيب: بأنه تأكيد الحال

الصفحة 73