كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)

ليتلاحقوا ولا يشذ منهم أحد ولا يزالون كذلك.
{حتى إذا جاؤوا} إلى مكان الحساب {قال} أي: الله تعالى لهم {أكذبتم} أي: أنبيائي {بآياتي} التي جاؤوا بها {و} الحال أنكم {لم تحيطوا بها} أي: من جهة تكذيبكم {علماً} أي: من غير فكر ولا نظر يؤدّي إلى الإحاطة بما في معانيها وما أظهرت لأجله حتى تعلموا ما تستحقه وما يليق بها بدليل الأمر به فيه، وأم في قوله تعالى: {أم ماذا} منقطعة وتقدّم حكمها، وماذا يجوز أن يكون برمته استفهاماً منصوباً بتعلمون الواقع خبراً عن كنتم، وأن تكون ما استفهامية مبتدأ وذا موصول خبره والصلة {كنتم تعلمون} .

وعائده محذوف أي: أي شيء الذي كنتم تعملونه.
{ووقع القول} أي: وجب العذاب الموعود {عليهم بما ظلموا} أي: بسبب ما وقع منهم من الظلم من صريح التكذيب وما ينشأ عنه من الضلال في الأقوال والأفعال {فهم لا ينطقون} قال قتادة: كيف ينطقون ولا حجة لهم نظير قوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات: 35، 36)
وقيل: لا ينطقون لأن أفواههم مختومة، ثم إنه تعالى لما خوّفهم بأحوال القيامة ذكر كلاماً يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد والحشر وعلى النبوّة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال.
{ألم يروا} مما يدلهم على قدرتنا على بعثهم بعد الموت وعلى كل ما أخبرناهم به {أنا جعلنا} أي: بعظمتنا الدالة على نفوذ مرادنا وفعلنا بالاختيار {الليل} أي: مظلماً {ليسكنوا فيه} عن الانتشار {والنهار مبصراً} أي: يبصر فيه ليتصرفوا فيه ويبتغوا من فضل الله فحذف من الأوّل ما ثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما ثبت نظيره في الأول إذ التقدير جعلنا الليل مظلماً كما مرّ ليسكنوا فيه والنهار مبصراً ليتصرفوا فيه كما مرّ فحذف مظلماً لدلالة مبصراً وليتصرفوا لدلالة لتسكنوا فيه وقوله تعالى: {مبصراً} كقوله تعالى: {آية النهار مبصرة} (الإسراء: 12)
وتقدم الكلام على ذلك في الإسراء.
قال الزمخشري فإن قلت ما للتقابل لم يراع في قوله تعالى ليسكنوا ومبصراً حيث كان أحدهما علة والآخر حالاً؟ قلت: هو مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف لأنّ معنى مبصراً ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب، وأجاب غيره بأنّ السكون في الليل هو المقصود ولأن وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية {إن في ذلك} أي: هذا المذكور {لأيات} أي: دلالات بينة على التوحيد والبعث والنبوّة وغير ذلك وخص المؤمنين بقوله تعالى: {لقوم يؤمنون} لأنهم المنتفعون به وإن كانت الأدلة للكل كقوله تعالى: {هدى للمتقين} (البقرة: 2)
ولما ذكر تعالى هذا الحشر الخاص والدليل على مطلق الحشر ذكر الحشر العام بقوله تعالى:
{ويوم ينفخ} أي: بأيسر أمر {في الصور} أي: القرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام {ففزع} أي: فصعق كما قال تعالى في آية أخرى: {فصعق} (الزمر، 68) {من في السموات ومن في الأرض} أي: كلهم فماتوا والمعنى أنه يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا، وقيل: ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين، فإن قيل: لم قال الله تعالى ففزع ولم يقل فيفزع؟ أجيب: بأنّ في ذلك نكتة وهي الإشعار بتحقيق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة واقع على أهل السموات والأرض لأنّ الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعاً به، والمراد فزعهم عند

الصفحة 76