كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)

وتم استحكامه بانتهاء شبابه وهو من العمر ما بين إحدى وعشرين سنة إلى اثنتين وأربعين {آتيناه} أي: ابتداء من غير اكتساب أصلاً، خرقاً للعادة أسوة إخوانه من الأنبياء {حكماً} أي: عملاً محكماً بالعلم {وعلماً} أي: فقهاً في الدين تهيئة لنبوّته وإرصاداً لرسالته، وقيل: المراد بالعلم علم التوراة والحكم السنة، قال الزمخشري: وحكمة الأنبياء سنتهم قال الله تعالى {واذكرن ما يتلى في بيوتكنّ من آيات الله والحكمة} (الأحزاب، 34) ، وقيل: معناه آتيناه سيرة الحكماء العلماء وسمتهم قبل البعث فكان لا يفعل فعلاً يستجهل فيه.
قال البقاعي: واختار الله تعالى هذا السن للإرسال ليكون من جملة الخوارق لأنّ به يكون ابتداء الانتكاس الذي قال الله تعالى فيه: {ومن نعمره} (يس: 68)

أي: إلى إكمال سنّ الشباب {ننكسه في الخلق} (يس: 68)
أي: نوقفه فلا يزداد بعد ذلك في قواه الظاهرة ولا الباطنة شيء أولا يوجد فيه غريزة لم تكن موجودة أصلاً عشر سنين ثم يأخذ في النقصان هذه عادة الله في جميع بني آدم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنهم في حدّ الوقوف يؤتون من بحار العلوم ما يقصر عنه الوصف بغير اكتساب بل غريزة يغرزها الله تعالى فيهم حينئذ ويؤتون من قوّة الأبدان أيضاً بمقدار ذلك ففي انتكاس غيرهم يكون نموهم وكذا من ألحقه الله تعالى بهم من صالحي أتباعهم كما قال تعالى.
{وكذلك} أي: مثل هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنين} أي: كلهم على إحسانهم، ولما أخبر تعالى بتهيئته للنبوّة أخبر بما هو سبب لهجرته وكأنها سنة بعد إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى:
{ودخل} أي: موسى عليه السلام {المدينة} قال السدي: هي مدينة منف من أرض مصر، وقال مقاتل: كانت قرية تدعى جابين على رأس فرسخين من مصر، وقيل: مدينة عين شمس، وقيل: غير ذلك {على حين غفلة من أهلها} وهو وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة، وقال محمد بن كعب القرظي: دخلها فيما بين المغرب والعشاء، وقيل: يوم عيد لهم وهم مشتغلون فيه بلهوهم، وقيل: لما شب وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم فأخافوه فلا يدخل قرية إلا على تغفل واختلف في السبب الذي من أجله دخل المدينة في هذا الوقت.
قال السدي: وذلك أن موسى كان يسمى ابن فرعون فكان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ملابسه فركب فرعون يوماً وليس عنده موسى فلما جاء موسى قيل له إن فرعون قد ركب فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض منف فدخلها نصف النهار وليس في طرقها أحد.
وقال ابن إسحاق: كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون برأيه فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه فخالفهم في دينهم فأخافوه فكان لا يدخل قرية إلا خائفاً مستخفياً، وقال ابن زيد: ولما علا موسى فرعون بالعصا في صغره فأراد فرعون قتله فقالت امرأته هو صغير فترك قتله وأمر بإخراجه من مدينته فلم يدخل عليهم إلا بعد أن كبر وبلغ أشدّه {فوجد فيها} أي: المدينة {رجلين يقتتلان} أي: يفعلان مقدّمات القتل مع الملازمة من الضرب والخنق وهما إسرائيلي وقبطيّ، ولهذا قال تعالى مجيباً لمن كان يسأل عنهما وهو ينظر إليهما {هذا من شيعته} أي: من بني إسرائيل {وهذا من عدوه} أي: من القبط، قال مقاتل: كانا كافرين إلا أن أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل لقول موسى عليه السلام {إنك لغويّ مبين} والمشهور أن الإسرائيلي كان مسلماً

الصفحة 87