كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)

استدل أولاً بالإحياء والإماتة وهو الذي ذكر موسى عليه الصلاة السلام بقوله: {ربكم ورب آبائكم الأولين} فأجابه نمروذ {أنا أحي وأميت} (البقرة: 228)
فقال {إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} (البقرة: 258)
وهو الذي ذكره موسى ج بقوله: {رب المشرق والمغرب} وأما قوله: {إن كنتم تعقلون} فكأنه ج قال إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت لك، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته ولا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته، فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته، وقد عرفت حقيقته بآثار حقيقته فمن كان عاقلاً يقطع بأنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرته لك، فلما انقطع فرعون عن الجواب ولزمته الحجة تكبر عن الحق وعدل إلى التخويف بأن.
{قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} أي: واحداً ممن هم في سجني على ما تعلم من حالي في اقتداري ومن سجوني وفظاعتها، ومن حال من فيها من شدّة الحصر والغلظ في الحجر. قال الكلبي: كان سجنه أشدّ من القتل لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق وحده لا يسمع ولا يبصر فيها شيئاً، وقرأ ابن كثير وحفص وعاصم بإظهار الذال عند التاء، والباقون بالإدغام، ثم ذكر موسى ج كلاماً مجملاً ليعلق فرعون قلبه به فيعدل عن وعيده، بأن.

{قال} مدافعاً بالتي هي أحسن إرخاء للعنان لإزادة البيان معنىً لا يبقى معه عذر ولا نسيان، لأنّ من العادة الجارية السكون إلى الإنصاف والرجوع إلى الحق والاعتراف {أولو} أي: أتسجنني ولو {جئتك بشيءٍ مبين} أي: هل يحسن أن يذكر هذا مع اقتداري على أن آتيك بشيء بدليلين يدلان على وجود الله تعالى وعلى أني رسوله فعند ذلك.
{قال} طمعاً في أن يجد موضعاً للتكذيب أو التلبيس {فأت به} أي: تسبب عن قولك هذا أني أقول ائت بذلك الشيء {إن كنت من الصادقين} أي: فيما ادعيت من الرسالة.
تنبيه: الواو في أولو جئتك واو الحال وليتها الهمزة بعد حذف الفعل كما علم من التقرير، فإن قيل: كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأوّل وهو قوله أولو جئتك بشيء مبين أي: بآية بينة والمعجز لا يدل على ذلك كدلالة سائر ما تقدم؟ أجيب: بأنه يدل بما أراد أن يظهره من انقلاب العصا حية على الله تعالى وعلى توحيده وعلى أنه صادق في ادعاء الرسالة، فالذي ختم به كلامه ما تقدم.
{فألقى} أي: فتسبب عن ذلك وتعقبه أن ألقى موسى {عصاه} التي تقدم في غير سورة أنّ الله تعالى أراه إياها ولم يصرّح باسمه اكتفاء بضميره لأنه غير ملتبس {فإذا هي ثعبان} أي: حية في غاية الكبر {مبين} أي: ظاهر ثعبانيته، روي أنها لما انقلبت حية ارتفعت إلى السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون تقول يا موسى مرني بما شئت، ويقول فرعون أسألك بالذي أرسلك إلا ما أخذتها فأخذها فعادت عصا، فإن قيل: كيف قال هنا {ثعبان مبين} وفي آية أخرى {فإذا هي حية تسعى} (طه: 20)
وفي آية ثالثة {كأنها جان} (النمل: 10)
والجان مائل إلى الصغر والثعبان إلى الكبر؟ أجيب: بأن الحية اسم الجنس ثم لكبرها صارت ثعباناً، وشبهها بالجان لخفتها وسرعتها، ويحتمل أنه شبهها بالشيطان لقوله تعالى: {والجانّ خلقناه من قبل من نار السموم} (الحجر: 27)
ويحتمل أنها كانت صغيرة

الصفحة 9