كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)
في مشيه فأخذ طريقاً قريباً حتى سبق إلى موسى فأخبره وأنذره حتى أخذ طريقاً آخر، فكأنه قيل فما قال الرجل له فقيل:
{قال} منادياً لموسى تعطفاً وإزالة للبس {يا موسى إنّ الملأ} أي: أشراف القبط الذين في أيديهم الحلّ والعقد لأنّ لهم القدرة على الأمر والنهي {يأتمرون بك} أي: يتشاورون في شأنك {ليقتلوك} حتى وصل حالهم في تشاورهم إلى أن كلاً منهم يأمر الآخر ويأنمر بأمره لأنهم سمعوا أنك قتلت صاحبهم {فاخرج} أي: من هذه المدينة ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرقه من احتمال عدم القتل لكونه عزيزاً عند الملك {إني لك من الناصحين} أي: الغريقين في نصحك.
{فخرج} أي: موسى عليه السلام مبادراً {منها} أي: المدينة لما علم صدق قوله مما تحققه من القرائن حال كونه {خائفاً} على نفسه من آل فرعون {يترقب} أي: يكثر الإلتفات بإدارة رقبته في الجهات ينظر هل يتبعه أحد ثم دعا الله تعالى بأن {قال رب} أي: أيها المحسن إليّ بالنجاة وغير ذلك من وجوه البر {نجني} أي: خلصني {من القوم الظالمين} أي: الذين يضعون الأمور في غير مواضعها فيقتلون من لا يستحق القتل مع قوتهم فاستجاب الله تعالى دعاءه فوفقه لسلوك الطريق الأعظم نحو مدين فكان ذلك سبب نجاته، وذلك أنّ الذين انتدبوا إليه قطعوا بأنه لا يسلك الطريق الأكبر جرياً على عادة الخائفين الهاربين، وفي القصة أن فرعون لما بعث في طلبه قال اركبوا ثنيات الطريق فانبثوا فيما ظنوه يميناً وشمالاً ففاتهم.
{ولما توجه} أي: أقبل بوجهه قاصداً {تلقاء} أي: الطريق الذي يلاقي سالكه أرض {مدين} قال ابن عباس: خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى ومشى من غير معرفة فهداه الله تعالى إلى مدين، وقيل: وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وكان من بني إسرائيل سميت البلدة باسمه فخرج ولم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى، وقيل جاءه جبريل عليه السلام وعلمه الطريق، قال ابن اسحق: خرج من مصر إلى مدين خائفاً بلا زاد ولا ظهر وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر {قال عسى} أي: جدير وحقيق {ربي} أي: المحسن إليّ {أن يهديني سواء} أي: أعدل ووسط {السبيل} أي: الطريق الذي يطلعني الله تعالى عليها من غير اعوجاج وقال ذلك قبل أن يعرف الطريق إليها، قيل: فلما دعا جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين، قال المفسرون: خرج موسى من مصر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر والبقل حتى ترى خضرته في بطنه وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه، قال ابن عباس: وهو أوّل ابتلاء من الله تعالى لموسى عليه السلام {ولما ورد} أي: وصل {ماء مدين} وهو بئر كان يسقي منها الرعاة مواشيهم {وجد عليه} أي: الماء {أمّة} أي: جماعة كثيرة {من الناس} مختلفين {يسقون} أي: مواشيهم {ووجد من دونهم} أي: في مكان سواهم أسفل من مكانهم {امرأتين} عبر بذلك لما جعل لهما سبحانه من المروءة ومكارم الأخلاق كما يعلمه من أمعن النظر فيما يذكر عنهما {تذودان} أي: تحبسان وتمنعان أغنامهما إذا فزعت من العطش إلى الماء حتى يفرغ الناس ويخلو لهما البئر، وقال الحسن: تكفان الغنم لئلا تختلط بغنم الناس، وقال قتادة: تكفان الناس عن أغنامهما، وقيل: لئلا يختلطن بالرجال، وقيل كانتا تذودان
الصفحة 90
604