كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير (اسم الجزء: 3)
عن وجوههما نظر الناظرين لتسترهما، وقيل غير ذلك فكأنه قيل فما قال موسى لهما قيل {قال} لهما رحمة لهما {ما خطبكما} أي: ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع
الناس {قالتا لا نسقي} أي: مواشينا وحذف للعلم به {حتى يصدر} أي: ينصرف ويرجع {الرعاء} أي: عن الماء خوف الزحام فنسقي، وقرأ أبو عمرو وابن عامر: بفتح الياء وضم الدال، والباقون: بضم الياء وكسر الدال مضارع أصدر يعدى بالهمزة تنبيه: المفعول محذوف أي: يصدرون مواشيهم والرعاء جمع راع مثل تاجر وتجار، أي: نحن امرأتان لا يليق أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض {وأبونا شيخ كبير} أي: لا يستطيع لكبره أن يسقى فاضطررنا إلى ما ترى.
تنبيه: اختلف في أبيهما، فقال مجاهد والضحاك والسدي والحسن: أبوهما هو شعيب النبيّ عليه السلام وإنه عاش عمراً طويلاً بعد هلاك قومه حتى أدركه موسى عليه السلام وتزوّج بابنته، وقال وهب وسعيد بن جبير: هو يثرون ابن أخي شعيب وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعدما كف بصره فدفن بين المقام وزمزم، وقيل: رجل ممن آمن بشعيب قالوا فلما سمع موسى قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس، وقال ابن إسحاق: أنّ موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر فسقى غنم المرأتين، ويروى أن القوم لما رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر، وقيل: أربعون، وقيل: مائة فجاء موسى ورفع الحجر وحده وسقى غنم المرأتين ويقال: إنه سألهم دلوا من ماء فأعطوه دلوهم وقالوا اسق بها وكانت لا ينزعها إلا أربعون فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا فيه بالبركة فروى منه جميع الغنم، فإن قيل كيف ساغ لنبيّ الله تعالى شعيب أن يرضى لابنتيه الرعي بالماشية؟.
أجيب: بأن الناس اختلفوا فيه هل هو شعيب أو غيره، وإذا قلنا أنه هو كما عليه الأكثر فليس ذلك بمحظور فلا يأباه الدين، والناس مختلفون في ذلك بحسب المروءة وعادتهم فيها متباينة وأحوال العرب والبدو تباين أحوال العجم والحضر لا سيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة.
{فسقى} أي: موسى عليه السلام {لهما} والمفعول محذوف أي: غنمهما لما علم ضرورتهما انتهازاً لفرصة الأجر وكرم الخلق في مساعدة الضعيف مع ما به من النصب والجوع وسقوط خف القدم ولكنه رحمهما وأغاثهما وكفاهما أمر السقي في مثل تلك الزحمة بقوّة قلبه وقوّة ساعده وما آتاه الله تعالى من الفضل في متانة الفطرة ورصانة الجبلِّة {ثم تولى} أي: انصرف جاعلاً ظهره يلي ما كان يليه وجهه {إلى الظل} أي: ظل سمرة فجلس في ظلها ليقيل ويستريح مقبلاً على الخالق بعدما قضى من نصيحة الخلائق وهو جائع، قال الضحاك: لبث سبعة أيام لم يذق طعاماً إلا بقل الأرض {فقال رب إني} وأكد الافتقار بالالصاق باللام دون إلى بقوله {لما أنزلت إليّ من خير} قليل أو كثير غث أو سمين {فقير} أي: محتاج سائل.
تنبيه: {لما أنزلت} متعلق بفقير قال الزمخشري عدَّى فقير باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب ويحتمل إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين وهو النجاة من الظالمين وليس في الشكوى إلى الغني المطلق نقص، قال ابن عباس سأل الله تعالى فلقة خبز يقيم بها صلبه، وقال الباقر: لقد قالها وإنه لمحتاج إلى شق تمرة، وقال
الصفحة 91
604