كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 3)

قد كفّ المنشد عن النشيد فجلسوا يستريحون كما بدا لنا، حتى بلغنا صدر المسجد أو المجلس (فلم أكن أدري أي شيء هو) فوجدنا شيخاً بعمامة خضراء (أي أنه سيد منسوب) قاعداً على كرسيّ وإلى جنبه كراسيّ فارغة، دَعَونا فقعدنا عليها. فما لبث القوم أن عادوا إلى الوقوف وعاد الشاعر إلى الإنشاد، وكلما أنشد أبياتاً وقف وقفة، فرفعوا أيديهم بحركة واحدة ثم هبطوا بها على صدورهم بلطمة واحدة تهزّ جدران المكان من وقعها، ثم يعاود هو الإنشاد ويعاودون هم اللطم، حتى احمرّت الصدور وغمرهم العرق، وامتلأت القلوب مما يسمعون أسىً على الحسين وحباً به ونقمة على بني أمية وعلى أهل الشام الذين حمّل هذا الشعرُ وِزرَ ما حدث عليهم ونسبه إليهم.
هنا تفيض البلاغة في صدر أحد الطلاب الذين جاؤوا معي ويغمره الشعور بمكارم الأخلاق، وتعتريه نوبة مفاجئة من نوبات الوفاء لي والتغني بمناقبي، فيقدمني للسيد ذي العمامة الخضراء فيقول له: أعرفك بأستاذي الجليل الكاتب الشامي الكبير، مؤلف الكتب العظيمة ومنها كتاب «أبو بكر الصديق» وكتاب «عمر بن الخطاب» و ...
ولم أسمع بقية الكلام لأني رحت أتشهّد ليكون آخر كلامي من الدنيا «أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله».
لم أعد أسمع ما يقول لأني شعرت أن قلبي هبط إلى أسفل البطن كما يهبط المصعد الذي انقطعت سلاسله فجأة في العمارة! وأيقنت بالموت، وتلفّتُّ حولي لعلي أجد مهرباً، فإذا المكان

الصفحة 384