كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 3)

محاط بجدران مغلقة ليس فيها إلا الباب الذي دخلنا منه، ما للمكان نافذة ولا طاقة، وبيني وبين الباب العشرات من عراة الصدور الذين يضربون صدورهم ضربات لو نزلت على رأس ثور من ثيران المصارعة في إسبانيا لخرّ صريعاً للفم ولليدين! فكيف تكون حالي معهم لو عرفوا أني من أهل الشام وأني مؤلف كتاب أبي بكر وكتاب عمر؟ ومن أين أثبت لهم أني بريء من دم الحسين، لم يشارك في جريمة قتله أحد من أجدادي لأنهم كانوا في طنطا في مصر، أو لعلهم كانوا في المغرب أو في الهند أو في سيام (تايلاند)؟ حسبي أنهم لم يكونوا في الشام، ولو كانوا فيها فإنهم بُرَآء من دم الحسين، ولو حضَرتُه لفديته بروحي غيرَ متردد، وكذلك يفعل كل مسلم.
ولكن هل كانوا يدَعون لي فرصة للدفاع عن نفسي؟ ولو حاولت الدفاع فمن منهم يصدّقني؟ هنالك سُقط في يدي ويئست من النجاة، وصار ما أدعو الله به سراً أن يجعل ميتتي سهلة فأموت بلا عذاب، أما النجاة فقصر عنها أملي. هذا وأنا أُلامُ على جرأتي وتهوري، ما كان الجبن يوماً من عيوبي.
أما أنور الذي أدخلنا هذا المدخل فقد اختلست نظرة إليه فوجدت لون وجهه كلون قشرة الليمون البلدي، أصفر ما فيه نقطة من دم. فنظرت إلى وجه السيد ذي العمامة الخضراء لعلّي أستشفّ منه ما ينويه، فما دلّ وجهه على شيء، فتركت الأمر لله.
وطال الموقف وأنا على هذه الحال من الترقب والفزع، حتى مرت سبعون ساعة كاملة متواصلة ولم يتبدل شيء، وكل دقيقة منها بساعة. حتى إذا انتهى الإنشاد وسكت المنشد رأيت

الصفحة 385