كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 3)

القوم كأنهم يستعدون للرحيل، فهم يُخرجون ثيابهم فيَدخلون فيها، لم أعلم أين كانوا يخفونها. فعرفت أنها انتهت النوبة وأن هؤلاء يذهبون ليأتي غيرهم، فأمنت قليلاً، ونظرت في ساعتي فإذا المدة التي أحسست أنها سبعون ساعة لم تكن أكثر من عشرين دقيقة، ولكن زمن الألم والخوف يطول! فودّعت السيد وأسرعت إلى الباب، فلما صرنا في الطريق حمدت الله على أني رجعت إلى الدنيا بعدما كدت أرى الموت.
وبقينا في الحلة يومين، وعرفت هذا السيد من قرب فوجدته ظريفاً لطيفاً أديباً لبيباً بعيداً عن العصبية (أو لعلها هي التَّقِيّة)، فذكّرته بما كان فقال: احمد الله على السلامة وعلى أنهم لم يسمعوا ما قال الطالب. قلت: ألم تكن لتحميني منهم؟ فضحك وقال: ومن يحميني أنا إن حميتك؟ لا والله، ما كنت لأحميك بل أدعك لترى مصيرك!
* * *
لم أتعرض مدة بقائي في بغداد إلى نزاع السنة والشيعة، لأني كنت أحاول التوفيق لا التفريق والوئام لا الخصام، حتى إذا جئت البصرة وكان الطلاب فيها يسألونني فأجيب بما أعرف من قول أهل السنة، لما كان ذلك ساء مشايخَ الشيعة في البصرة فبعثوا إليّ: إذا شئت المناظرة فناظِرنا نحن العلماء، لا الطلاب الذين لا يعلمون.
وكنت من صغري أحب المناظرة وقد أوتيت جدَلاً، فقلت: نعم. وتواعدنا على اللقاء، فبلغ ذلك المتصرّف فخاف الفتنة

الصفحة 386