كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 3)

وكنت مع طلاّب أُولي ذكاء وفطنة وأدب وتقدير للمدرّس، ففتح الله عليّ بأشياء أُلهمتها وما سُبِقت إليها. منها أنّ كتب تاريخ الأدب التي كانت تُدرَّس يومئذ في المدارس، في مصر وفي غيرها، كانت تنسب لابن المعتز الموشَّح المشهور:
أيُّها السّاقي إليكَ المُشتكَى ... قَدْ دَعَوْناكَ وإنْ لم تَسْمَعِ
ونديمٍ هِمتُ في غرّتِهِ ... وبشُربِ الرّاحِ من راحتِهِ
كلّما استيقظ من سَكْرتِهِ
جَذبَ الزّقَّ إليهِ واتّكا ... وسقاني أربَعاً في أربَعِ
فأمليت على الطلاب شكّي في نسب هذا الموشح إلى ابن المعتز، ودلّلت على ذلك بأدلّة منها: أنه لا يشبه أسلوب ابن المعتز، الثاني: أنه لو كان له لقلّده شعراء من أهل عصره، ولكثُرَت الموشّحات ولم يجئ فلتة لا نظير لها. وأدلّة أخرى أمليتها عليهم. ثم مرّت الأيام فتبيّن للباحثين أن الموشح ليس لابن المعتز (¬1).
لقد درست معهم الأدب على اعتبار أنه فن من الفنون، بعد أن بيّنت لهم فرق ما بين العلم والفنّ، وأن العلم غايته الحقيقة ووسيلته الفكر وأداته المنطق، وأن الفنّ غايته الجمال ووسيلته الشعور وأداته الذوق، وأن الأدب لون من ألوان الفنّ أو أسلوب من أساليب التعبير عنه. بيتهوفن -مثلاً- ذهب يعزّي صديقاً له بولده الذي مات فعجز لسانه عن الكلام، فعبّر بأصابعه على أوتار
¬__________
(¬1) الذي عليه الرأي اليوم أن هذا الموشح من عمل ابن زُهر الحفيد، وهو أبو بكر محمد ابن زُهْر الإشبيلي المتوفى سنة 595 (مجاهد).

الصفحة 392