كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 3)

«الرسالة» شعراً نفيساً أثار إعجابنا وتقديرنا، شعراً حقيقياً لا هذا الشعر الذي سمّوه حُراً أو شعر الحداثة. فهل يبقى الحدَث حدثاً أم يشبّ ويعقل ويغدو رجلاً، فإن لم يستقم أخذوه إلى «إصلاحية الأحداث»؟!
سَمّوه حُرّاً، ومن الحرية ما هو فوضى؛ فإن رأيت الجند يمشون صفاً واحداً مرتّباً منظوماً نظم اللآلئ في العقد، ينتقلون كأرجل جواد المتنبّي: «رِجلاهُ في الرّكضِ رِجْلٌ واليدانِ يدُ»، فخرج واحد منهم عن الصف وعلى نظامه، فمشى على غير مشيته وبسرعة غير سرعته، وربما توجّه وجهة غير وجهته، فإن وضعوا أقدامهم رفع قدمه وإن رفعوها وضعها، وإن أسرعوا أبطأ وإن أبطؤوا أسرع ... أو مثل جوقة من المغنّين يغنّون جميعاً لحناً واحداً على إيقاع واحد، فخرج واحد منهم بلحن آخر وبنغمة أخرى، أو كمن يعزف مقطوعة من مقام البيات أو الرّست (الرصد) فنشز فإذا هو ينتقل فجأة إلى النهاوَنْد أو الصَّبا ... أليس هذا هو ما يسمونه بشعر التفعيلة: شعر تفعيلاته صحيحة الوزن ولكن لا ارتباط بين أبياته ولا تناسق بينها: تنتقل الأذن من إيقاع إلى إيقاع كالذي ذكرتُه هنا، وهو النشاز. وإن الشعر الحقّ هو الذي يثير الشجون ويحرّك العواطف، مع اتّساقه في الأذن ومحافظته على الإيقاع.
والغريب أنهم يتنازعون فخر البداءة بهذا الشعر الحديث أو الحرّ، وعهدنا بالناس أنهم يتنازعون المَكرُمات كلٌّ يدّعيها، لا الجرائم ولا المَعرّات.
على أن الحقيقة أن أول ما عرفنا من هذا النوع مرثِيّة الأستاذ

الصفحة 401