كتاب ذكريات - علي الطنطاوي (اسم الجزء: 3)

كيف تمشي جياد بلا قوائم؟ لا يفهم الشعر تماماً إلاّ من ألمّ بشيء من تاريخ العصر الذي قيل فيه. فالروم (البيزنطيون) كانوا يتّخذون دروعاً سابغة لخيولهم تصل إلى الأرض فلا تبدو معها قوائمها، و «ثيابُهُمُ مِن مِثلِها والعَمائِمُ». في ذلك الجيش الضخم الذي يسدّ ما بين الشرق والغرب:
خَميسٌ بشرقِ الأرضِ والغَربِ زحفُهُ ... وفي أُذُنِ الجَوزاءِ منهُ زمازمُ
لماذا سمّاها زمازم؟ الزمازم الأصوات المبهَمة المتداخلة التي لا يكاد السامع يفهم لها معنى. ذلك لأن هذا الجيش:
تجمّعَ فيهِ كلُّ لِسنٍ وأمّةٍ ... فما يُفهِمُ الحُدّاثَ إلاّ التّراجمُ
وكانت تلك الصورة الحقيقية للجيش البيزنطي الذي يضمّ جنوداً من شتّى الأمم التي كانت خاضعة لحكم البيزنطيين. وهذا يجرّني إلى تذكير الطلاّب بوصف العرض العسكري يوم العيد، العرض الذي جاء به البحتري فأرانا عنه فِلْماً كاملاً فيه الصورة وفيه الصوت، فِلْم ناطق لا يزال صداه مسموعاً بعد أكثر من ألف سنة، ألا تسمعون صهيل الخيل وهتاف الفرسان؟ ألا ترون لمع الأسنّة وبريق الحراب؟
فالخيلُ تصهَلُ والفوارسُ تدّعي ... والبيضُ تلمعُ والأسنّة تُزهِرُ
والأرض كأنها من ثقل ما تحمل ومن جلاله قد خشعت ومادت، والجوّ ممّا ثار من الغبار قد صار عكراً مكفهرّاً، تضيء الشمس من خلاله تارة ويحجبها الغبار عن الدنيا تارة:

الصفحة 407