كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 6)

"""""" صفحة رقم 21 """"""
ولم أر فيما طالعته من هذا المعنى أجمع للوصايا ولا أشمل من عهدٍ كتبه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى مالك بن الحارث الأشتر حين ولاّه مصر ، فأحببت أن أورده على طوله وآتي على جملته وتفصيله ، لأن مثل هذا العهد لا يهمل ، وسبيل فضله لا يجهل ، وهو : هذا ما أمر به عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاّه مصر : جباية خراجها ، وجهاد عدوها ، واستصلاح أهلها ، وعمارة بلادها ، أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتباع ما أمره به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها ، ولا يشقى إلا بالعدول عنها ؛ وأن ينصر الله تعالى بيده وقلبه ولسانه ، فإنه جلّ اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه ؛ وأمره أن يكسر نفسه عند الشهوات ويزعها عند الجمحات ، فإن النفس لأمارةٌ بالسوء .
ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول من قبلك من عدل وجور ، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمر الولاة قبلك ، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم .
وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده . فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح . فاملك هواك وشحّ بنفسك عما لا يحل لك ؛ فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت .
وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم ؛ والطف بهم ، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم ؛ فإنهم صنفان : إما أخٌ في الدين ، وإما نظيرٌ لك في الخلق ، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ ؛ فأعطهم من صفحك وعفوك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه ، فإنك فوقهم ، ووالي الأمر عليك فوقك ؛ والله فوق من ولاّك ؛ وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم ، فلا تنصبن نفسك لحرب الله ، فإنه لا قوة لك بنقمته ، ولا غنى بك من عفوه ورحمته .
ولا تندمنّ على عفو ، ولا تبجحنّ بعقوبة ، ولا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة ، ولا تقولنّ : مؤمّر آمر فأطاع ، فإن ذلك إدغالٌ في القلب ومنهكةٌ للدين وتقرب من الغير .
فإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبّهةً أو مخيلةً ،

الصفحة 21