كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 6)

"""""" صفحة رقم 22 """"""
فانظر إلى عظم ملك الله تعالى فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك ، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك ، ويكفّ عنك من غربك ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك .
وإياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته ، فإن الله يذّل كل جبّار ويهين كل مختال .
أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك وممن لك فيه هوىً من رعيتك ، فإنك إلاّ تفعل تظلم ، ومن ظلم عباد الله كان خصمه دون عباده ، ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان لله حرباً حتى ينزع ويتوب .
وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامةٍ على ظلم فإن الله سميعٌ دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد . وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمّها في العدل وأجمعها لرضا الرعية ، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة ، وإن سخط الخاصة يغتفر برضا العامة .
وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤنةً في الرخاء ، وأقل معونةً في البلاء ، وأكره للإنصاف ، وأسأل بالإلحاف ، وأقلّ شكراً عند العطاء ، وأبطأ عذراً عند المنع ، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة ، وإن عمود الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة ؛ فليكن صغوك لهم وميلك معهم .
وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لعيوب الناس ، فإن في الناس عيوباً الوالي أحقّ بسترها ، فلا تكشفنّ عما غاب عنك منها ، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك ، والله حكمٌ على ما غاب عنك منها .
فاستر العورة ما استطعت يستر الله ما تحب ستره من عيبك .
أطلق عن الناس عقدة كل حقد ، واقطع عنهم سبب كل وتر ، وتغاب عن كل ما لا يصلح لك .
ولا تعجلنّ إلى تصديق ساعٍ ، فإن الساعي غاشّ وإن تشبه بالناصحين .
ولا تدخلنّ في مشورتك بخيلاً فيعدل عن الفضل ويعدك الفقر ، ولا جباناً فيضعفك عن الأمور ، ولا حريصاً فيزين لك الشره بالجور ؛ فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظن بالله .
واعلم أن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شركهم في الآثام ، فلا يكوننّ لك بطانةً ، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظّلمة . وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم ، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثماً على إثمه ، أولئك أخف عليك مؤنةً وأحسن لك معونة ، وأحنى عليك عطفاً وأقلّ لغيرك إلفاً ،

الصفحة 22