كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 6)

"""""" صفحة رقم 23 """"""
فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك . ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم للحق ، وأقلّهم مساعدةً فيما يكون منك مما كره الله تعالى لأوليائه واقعاً من هواك حيث وقع . ثم رضهم على ألاّ يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله ، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني إلى العزة . ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلةٍ واحدةٍ ، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة ، وألزم كلاًّ منهم ما ألزم نفسه .
واعلم أنه ليس شيء أدعى إلى حسن ظنّ والٍ برعيته من إحسانه إليهم وتخفيف المؤنات عليهم وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم .
وليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك ، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً .
وإن أحق من حسن ظنك به من حسن بلاؤك عنده ، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده .
ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية ، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن ، فيكون الأجر لمن سنها ، والوزر عليك بما نقضت منها .
وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك ، وإقامة ما استقام به الناس قبلك .
واعلم أن الرعية طبقاتٌ لا يصلح بعضها إلا ببعض ، ولا غنى ببعضها عن بعض ، فمنها جنود الله ، ومنها كتّاب العامة والخاصة ، ومنها قضاة العدل ، ومنها عمال الإنصاف والرفق ، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ، ومنها التجار وأهل الصناعات ، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة ، وكلٌ قد سمّى الله سهمه ، ووضع على حدّه فريضته في كتابه وسنة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عهداً منه محفوظاً .
فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن ، وليس تقوم الرعية إلا بهم ، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم .
ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب لما يحكمون من المعاقد ، ويجمعون من المنافع ، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها .
ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ، ويقومون به في أسواقهم ، ويكفونهم من الرفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم .
ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم ؛ وفي الله لكلٍ سعة ؛ ولكلٍ على الوالي حقٌ بقدر ما يصلحه .
وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من

الصفحة 23