كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 6)

"""""" صفحة رقم 25 """"""
عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ، أوقفهم في الشبهات ، وآخذهم بالحجج ، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم ، وأصبرهم على تكشف الأمور ، وأصرمهم عند إيضاح الحكم ، ممن لا يزدهيه إطراء ، ولا يستميله إغراء ؛ وأولئك قليل .
ثم أكثر تعاهد قضائه ؛ وافسح له في البذل ما يريح علته وتقل معه حاجته إلى الناس ، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك .
فانظر في ذلك نظراً بليغاً ؛ فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا .
ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وأثرة ، فإنهما جماعٌ من شعب الجور والخيانة .
وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة ، فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح أعراضاً ، وأقل في المطامع إسرافاً ، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً .
ثم أسبغ عليهم الأرزاق ، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم ، وغنىً لهم عن تناول ما تحت أيديهم ، وحجةٌ عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك .
ثم تفقد أعمالهم ، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم ، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوةً لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية .
وتحفظ من الأعوان ، فإن أحدٌ منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً ، فبسطت عليه العقوبة في بدنه ، وأخذته بما أصاب من عمله ، ثم نصبته بمقام الذلة ، ووسمته بالخيانة ، وقلدته عار التهمة .
وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله ، فإن صلاحهم وصلاحه صلاح لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم ، لأن الناس كلهم عيالٌ على الخراج وأهله .
وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ؛ ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً . فإن شكوا ثقلاً أو علةً أو انقطاع شرب أو بالةٍ أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش ، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم ؛ ولا يثقلنّ عليك شيء خففت به المؤنة عنهم ، فإنه ذخرٌ يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك ، مع استجلابك حسن ثنائهم

الصفحة 25