كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 6)

"""""" صفحة رقم 56 """"""
فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال : أقول : إن الله تعالى لا يزيدك بحسن العفو إلا عزاً ؛ فعفا عنه . وكان المأمون مؤثراً للعفو كأنه غريزة له ؛ وهو الذي يقول : لقد حبب إلي العفو حتى إني أظن أني لا أثاب عليه .
وأحضر إلى المأمون رجل قد أذنب ، فقال له المأمون : أنت الذي فعلت كذا وكذا ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، أنا الذي أسرف على نفسه واتكل على عفوك ؛ فعفا عنه .
قال : ولما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي أمر بإدخاله عليه ، فلما مثل بين يديه قال : وليّ الثأر محكم في القصاص ، والعفو أقرب للتقوى ، والقدرة تذهب الحفيظة ، ومن مد له الاعتذار في الأمل هجمت به الأناة على التلف ، وقد جعل الله كل ذنب دون عفوك ، فإن صفحت فبكرمك ، وإن أخذت فبحقك ؛ قال المأمون : إني شاورت أبا إسحاق والعباس في قتلك فأشارا علي به ؛ قال : أما أن يكونا قد نصحاك في عظم قدر الملك ولما جرت عليه السياسة فقد فعلا ، ولكن أبيت أن تستجلب النصر إلا من حيث عودك الله ، ثم استعبر باكياً ؛ فقال له المأمون : ما يبكيك ؟ قال : جذلاً إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته ، ثم قال : إنه وإن كان جرمي بلغ سفك دمي فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلغاني عفوه ، ولي بعد هذا شفعة الإقرار بالذنب وحرمة الأب بعد الأب ؛ قال المأمون : لو لم يكن في حق نسبك ما يبلغ الصفح عن جرمك لبلغك إليه حسن تنصلك .
فكان تصويب إبراهيم لرأي أبي إسحاق والعباس ألطف في طلب الرضا ودفع المكروه عن نفسه من تخطئتهما . ثم قال المأمون لإسحاق بن العباس : لا تحسبني أغفلت إجلابك مع ابن المهدي وتأييدك لرأيه وإيقادك لناره ؛ فقال : والله لإجرام قريش إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعظم من جرمي إليك ، ولرحمي أمس من أرحامهم ، وقد قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما قال يوسف لإخوته " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " ،

الصفحة 56