كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 6)

"""""" صفحة رقم 59 """"""
إلى جلسائه وقال لهم : إن أفضل الأصحاب من حض الصاحب على المكارم ، ونهاه عن ارتكاب المآثم ؛ وحسّن لصاحبه أن يجازي الإحسان بضعفه ، والإساءة بصفحه ؛ إنا إذا جازينا من أساء إلينا بمثل ما أساء فأين موقع الشكر على النعمة فيما أتيح من الظفر إنه ينبغي لمن حضر مجالس الملوك أن يمسك إلا عن قولٍ سديد وأمرٍ رشيد ، فإن ذاك أدوم للنعمة وأجمع للألفة ؛ إن الله تعالى يقول : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم " .
وقيل : بعث بعض الملوك في رجلٍ وجد عليه فظفر به ، فلما مثل بين يديه قال : أيها الأمير ، إن الغضب شيطانٌ فاستعذ بالله منه ، وإنما خلق العفو للمذنب والتجاوز للمسيء ، فلا يضيق على ما يسع الرعية من حلمك وعفوك ؛ فعفا عنه وأطلق سبيله .
وقال خالد بن عبد الله لسليمان بن عبد الملك حين وجد عليه : يا أمير المؤمنين ، إن القدرة تذهب الحفيظة ، وأنت تجلّ عن العقوبة ، ونحن مقرون بالذنب ، فإن تعف عني فأهل ذلك أنت ، وإن تعاقبني فأهل ذلك أنا ؛ فعفا عنه .
وقيل : أتي الحجاج بأسرى من الخوارج ، فأمر بضرب أعناقهم فقتلوا ، حتى قدم شاب منهم فقال : والله يا حجاج إن كنا أسأنا في الذنب فما أحسمت في العفو ؛ فقال الحجاج : أفاً لهذه الجيف أما كان فيهم من يقول مثل هذا وأمسك عن القتل .
وأتي الحجاج بأسرى فأمر بقتلهم ، فقال له رجل منهم : لا جزاك الله يا حجاج عن السنة خيراً ، فإن الله تعالى يقول : " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداءً " ، فهذا قول الله تعالى في كتابه ، وقال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق :
وما نقتل الأسرى ولكن نفكهم . . . إذا أثقل الأعناق حمل القلائد
فقال الحجاج : ويحكم أعجزتم أن تخبروني ما أخبرني به هذا المنافق وأمسك عمن بقي .

الصفحة 59