كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 6)

"""""" صفحة رقم 68 """"""
الرأي فهل عندك مشورة ؟ فقال : تهيأ والبس ثيابك ثم اهمم بما تريد ، فهو أجمع لرأيك ، فليس من أحدٍ يفعل ذلك إلا اجتمع له رأيه .
وقال أفلاطون : إذا استشارك عدوك فجرد له النصيحة ، لأنه بالاستشارة قد خرج من عداوتك إلى موالاتك .
وقيل : إذا أردت أن تعرف الرجل فشاوره ، فإنك تقف من مشورته على جوره وعدله ، وحبه وبغضه ، وخيره وشره .
وقيل : لما سار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قريش في غزاة بدر نزل ( صلى الله عليه وسلم ) أدنى ماء من مياه بدر ، فقال له الحباب بن المنذر : يا رسول الله ، أ رأيت هذا المنزل أ منزلٌ أنزلكه الله عز وجل ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : " بل هو الرأي والحرب والمكيدة " ؛ فقال : يا رسول الله ، فإن هذا ليس لك بمنزل فارحل بالناس حتى نأتي أدنى ماء من مياه القوم فننزله ، ثم نعور ما سواه من القلب ، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء ، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربوا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لقد أشرت بالرأي " ، وفعل ما أشار به الحباب .
وقال بزرجمهر : أفره ما يكون من الدواب لا غنى به عن السوط ، وأعقل ما يكون من النساء لا غنى بها الزوج ، وأدهى ما يكون من الرجال لا غنى به عن المشورة .
وقيل : كانت اليونان والفرس لا يجمعون وزراءهم على الأمر يستشيرون فيه ، وإنما يستشيرون الواحد منهم من غير أن يعلم الآخر به ، لمعانٍ شتى : منها لئلا يقع بين المشاورين منافسة تذهب أصالة الرأي وصحة النظر ، لأن من طباع المشتركين في الأمر التنافس والتغالب والطعن من بعضهم على بعض ، وربما أشار أحدهم بالرأي الصواب وسبق إليه فحسده الآخرون فتعقبوه بالإعراض والتأويل والتهجين وكدروه وأفسدوه .
ومنها أن في اجتماعهم على المشورة تعريض السر للإضاعة والشناعة والإذاعة ؛ ولذلك قالت الفرس : إنما يراد الاجتماع والكثرة والتناصر في الأمور التي يحتاج فيها إلى القوة ، فأما الآراء والأمور الغامضة فإن الاجتماع يفسدها ويولد فيها التضاغن والتنافس .

الصفحة 68