كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 7)

"""""" صفحة رقم 192 """"""
فقال المهلب للجراح : يا أبا عقبة ، والله ما تركت حيلةً إلا احتلتها ، ولا مكيدةً إلا عملتها ، وليس العجب من إبطاء النصر ، وتراخى الظفر ، ولكن العجب أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره ؛ ثم ناهضتم ثلاثة أيام يغاديهم ، ولا يزالون كذلك إلى العصر حتى قال الجراح : قد اعتذرت ؛ وكتب إلى الحجاج : أتاني كتابك يستبطئ لقاء القوم ، على أنك لا تظن بي معصيةً ولا جبناً ، وقد عاتبتني معاتبة الجبان ، وأوعدتني وعيد العاصي ، فسل الجراح والسلام . فكتب إليه الحجاج : أما بعد ، فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلي ويرجعون بعذرك ، وذاك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح وتنسى القتلى ، ويجم الناس ، ثم تلقاهم فتحمل منهم مثل ما يحملون منك من وحشة القتل وألم الجراح ، ولو كنت تلقاهم بذلك الجد لكان الداء قد حسم ، والقرن قد قصم ، ولعمري ما أنت والقوم سواءٌ ، لأن من ورائك رجالاً ، وأمامك أموالاً ، وليس للقوم إلا ما معهم ، ولا يدرك الوجيف بالدبيب ، ولا الظفر بالتعذير . فكتب إليه المهلب : أما بعد ، فإني لم أعط رسلك على قول الحق أجراً ، ولم أحتج منهم مع المشاهدة إلى تلقين ؛ وذكرت أني أجم القوم ، ولابد من راحة يستريح فيها الغالب ويحتال المغلوب ؛ وذكرت أن في الإجمام ما ينسي القتلى ، ويبرئ الجراح ، وهيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم ، يأبى ذلك قتل من لم يجن ، وقروح لم تتقرف ؛ ونحن والقوم على حالة ، وهم يرقبون حالات ، إن طمعوا حاربوا ، وإن ملوا وقفوا ، ونطلب إذا هربوا ، فإن تركتني فالداء بإذن الله محسوم ، وإن أعجلتني لم أطعك ولم أعص ، وجعلت وجهي إلى بابك ، وأنا أعوذ بالله من سخط الله مقت الناس .
وقال المهلب لبنيه : يا بني تباذلوا تحابوا ، فإن بني الأم يختلفون ، فكيف بني العلات ؛ إن البر ينسأ في الأجل ، ويزيد في العدد ، وإن القطيعة تورث القلة ،

الصفحة 192