كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 7)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا عنها أن تكون كما قال الله تعالى : " كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً " مع أن امرأ لم يكن معها في حبرة " أي السرور " ، إلا أعقبته بعدها حسرة ، ولم يلق من سرائها بطناً إلا منحته من ضرائها ظهراً ، ولم تصله غيثة رخاء ، إلا هطلت عليه مزنة بلاء ؛ وحريةٌ إذا أصبحت له منتصرة ، أن تمسى له خاذلة متكره ؛ وإن جانبٌ منها اعذوذب واحلولي ، أمر عليه منها جانب وأوبا ، فأن أتت امرأ من غصونها ورقاً أرهقته من نوائبها تعباً ، ولم يمس منها امرؤ في جناح أمنٍ إلا أصبح منها في قوادم خوف ، غرارةٌ غرورٌ ما فيها ، فانيةٌ فانٍ من عليها ؛ لا خير في شيء من زادها إلا التقوى ، من أقل منها استكثر مما يؤمنه ومن استكثر مها استكثر مما يوبقه ويطيل حزنه ، ويبكي عينه ؛ كم واثقٍ بها قد فجعته ، وذي حلم تنبه إليه قد صرعته ، وذي احتيالٍ فيها قد خدعته ؛ وكم ذي أبهة فيها قد صيرته حقيراً ، وذي نخوة ردته ذليلاً ، ومن ذي تاج قد كبته لليدين والفم ؛ سلطانها دول ، وعيشها رنق " أي الماء الكدر " وعذبها أجاج ، وحلوها صبر ، وغذاؤها سمام ، وأسبابها رمام ، وقطافها سلع ؛ حيها بعرض موت ، وصحيحها بعرض سقم ، وميعها بعرض اهتضام ؛ وملكها مسلوب ، وعزيزها مغلوب ، وسليمها منكوب وجارها محروب ؛ مع أن وراء ذلك سكرات الموت ، وهول المطلع ، والوقوف بين يدي الحكم العدل " ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول منكم أعماراً ، وأوضح منكم آثاراً ؛ وأعد عديداً وأكثف جنوداً ، وأشد عقوداً ، تعبدوا للدنيا أي تعبد ، وآثروها أي إيثار ، وظعنوا بالكره والصغار ، فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفساً بفدية ، أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب ؟ بل قد أرهقتم بالفوادح ، وضعضعتم بالنوائب ، وعقرتهم بالفجائع ؛ وقد رأيتم تنكرها لم رادها وآثرها وأخلد إليها ، حين ظعنوا عنها لفراق الأبد ، إلى آخر المسند ؛ هل زودتهم إلا السغب ، وأحلتهم إلا الضنك ، أو نورت لهم إلا الظلمة ، أو أعقبتهم إلا الندامة ؟ أفهذه تؤثرون ، أم على هذه تحرصون ، أم إليها تطمئنون ؟ يقول الله تعالى : " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم
الصفحة 194
236