كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 7)

"""""" صفحة رقم 195 """"""
أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون " فبئست الدار لمن أقام فيها ، فاعلموا إذ أنتم تعلمون أنكم تاركوها لابد ، فإنما هي كما وصفها الله باللعب واللهو ، وقد قال الله تعالى : " أتبنون بكل ريعٍ آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم جبارين " .
وذكر الذين قالوا : " من أشد منا قوة ثم قال : حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركباناً ، وأنزلوا فلا يرعون ضيفاناً ، وجعل الله لهم من الضريح أكناناً ، ومن الوحشة ألواناً ، ومن الرفات جيراناً ؛ وهم في جيرة لا يجيبون داعياً ، ولا يمنعون ضيماً ، إن أخصبوا لم يفرحوا ، وإن قحطوا لم يقنطوا ؛ جمعٌ وهم آحاد ، جيرةٌ وهم أبعاد ؛ متناءون ، لا يزورون ولا يزارون ؛ حلماء قد ذهبت أضغانهم ، وجهلاء قد ماتت أحقادهم ؛ لا يرجى نفعهم ، ولا يخشى دفعهم ؛ وكما قال الله تعالى : " فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين " فاستبدوا بظهر الأرض بطناً ، وبالسعة ضيقاً وبالأهل غربة ، وبالنور ظلمة ، ففارقوها كما دخلوها ، حفاةً عراةً فرادى ، غير أن ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة ، وإلى خلود الأبد ، يقول الله تعالى : " كما بدأنا أول خلقٍ نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين " فاحذروا ما حذركم الله ، وانتفعوا بمواعظه ، واعتصموا بحبله ، عصمنا الله وإياكم بطاعته ، ورزقنا وإياكم أداء حقه .
ومن كلام أبي مسلم الخراساني صاحب الدولة ، قيل له : ما كان سبب خروج الدولة عن أبي أمية ؟ فقال : لأنهم أبعدوا أولياءهم ثقةً بهم ، وأدنوا أعداءهم تألفاً لهم ، فلم يصر العدو بالدنو صديقاً ، وصار الصديق بالبعاد عدواً . وقيل له في حداثته : إنا نراك تأرق كثيراً ولا تنام ، كأنك موكل برعي الكواكب ، أو متوقعٌ الوحي في السماء ، فقال : والله ما هو ذاك ، ولكن لي رأيٌ جوال ، وغريزةٌ تامة ، وذهنٌ صافٍ ، وهمةٌ بعيدةٌ ، ونفسٌ تتوق إلى معالي الأمور ، مع عيش كعيش الهمج والرعاع ، وحالٍ متناهيةٍ من الاتضاع ، وإني لأرى بعض هذا مصيبةً لا تجبر بسهر ، ولا تتلافى بأرق ؛ قيل له : فما الذي يبرد غليلك ، ويشفي إجاج صدرك ؟

الصفحة 195