كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 8)

"""""" صفحة رقم 115 """"""
إلى أفلاك البراعة فكان نيرها الباهر ، ورام من سواه الارتقاء إلى محله والمناوأة لفضله فغدا وهو في ذيول حيرته عاثر ؛ فعند ذلك علموا عجزهم عن إدراك غاياته ، واعترفوا بالتقصير عن مجاراته ومباراته ؛ وحين لم يجد لفضله مجاريا ، ولا عاين لفضائله مباريا ؛ صار بها كالغريب وإن كان في أهله ووطنه ، والفريد مع كثرة أبنائه وإخوان زمنه ؛ فسمت به نفسه إلى ظلب العلوم من مظانها ، والاحتواء عليها في إبانها ؛ واللحاق بأعيان أهلها ، والاختلاط بمن ارتدى بأردية فضلها ؛ ورؤية من توشح بقلائدها ، وترشح لبذل فوائدها ونظم فرائدها ؛ ففارق الأقطار اليمنية وهي تسأله التأني ، وتبذل لرضاه الرغبة والتمني ؛ وهو لا يجيب مناديها ولا يعرج على ناديها ، ولا يميل إلى حاضرها ولا ينظر إلى باديها ؛ وصرف وجهه عنها ، ونفض يده منها ؛ والتحق بالديار المصريه ، وانبت في طلب العلوم بأجمل سريرةٍ وأحسن سيرةٍ وأخلص نيه ؛ فبلغ فيها مناه ، وأدرك بها ما تمناه ؛ وغدا وثغر فصاحته بالعلوم أشنب ، وبرد بلاغته بالآداب مذهب
تناهى علاءً والشباب رداؤه . . . فما ظنكم بالفضل والرأس أشيب
ولما عاينه أعيان أهل هذا الوادي ، وشاهدوه يبكر في طلب العلوم ويغادى ؛ تلقوه بالإكرام والترحيب ، وقابلوه بالتبجيل والتقريب ، وأنزلوه بالمحل الأرفع والفناء الخصيب ؛ وعاملوه بمحض الوداد ، وساواه شبابهم بالإخوة ومشايخهم بالأولاد ؛ وخلطوه بالنفس والمال ، وظهر له في ابتداء أمره بقرائن الأحوال حسن المآل ؛ فأصبح من عدول المصر ، وأمسى وهو من أعيان العصر ؛ فشكر عاقبة مسيره وحمد صباح سراه ، وأجابه لسان الفضائل بالتلبية لما دعاه ؛ ثم ارتحل إلى الشأم فجعل دمشق مقر وطنه ، وموطن سكنه ؛ ومحل استفادته وإفادته ، ونهاية رحلته وغاية إرادته ؛ فعامله أهلها بفوق ما في نفسه ، فحمد يومه بها على أمسه ؛ وغدا لأهل المصرين شاكرا ،

الصفحة 115