كتاب المناهل العذبة في إصلاح ما وهي من الكعبة

وما أنكره الإمام مالك ليس في تركه خطر ولا إفساد عبادة، بخلاف مسألتنا؛ لما يترتب عليها من الخطر المذكور. ولو سئل مالك عن مسألتنا لأجاب بمثل جوابنا؛ لأن مذهبه وجوب حسم الذرائع المفضية إلى المفاسد، ومسألتنا تنزع إلى ذلك؛ لأن تقرير الشاذروان على ما هو عليه، يؤدي إلى فساد طواف بعض الطائفين، فوجب حسمه بالإزالة.
الثاني: الفرق من حيث الصورة، وذلك أن هدم البيت أو جانبٍ منه، يكثر الابتذال فيه، ويعظم الشعث، وتقل الهيبة، لا سيما إذا كان ناشئاً عن هوى متبع، بخلاف هدم شبرٍ من دكة في بناء البيت إن احتيج إليه، وإلا فالضرورة تندفع بإلصاق بناءٍ إليه يتم به الذراع، ويندفع به المحذور، وبين الصورتين بونٌ عظيم.
على أنا نقول: إنما كره مالك ما كرهه؛ خشية أن يتكرر هدم البيت، لما علم من هدم ابن الزبير له وبنائه، ثم هدم الحجاج لما زاده ابن الزبير، فخشي مالك لو هدمه هذا الخليفة وأعاده على وضع ابن الزبير، أن يأتي بعده من يرى رأي الحجاج، فيتكرر ذلك، فجرى على مقتضى مذهبه من سد الذرائع.
ولهذا نبه رضي الله عنه على ذلك بقوله: ((أخشى أن يبقى ملعبةً للملوك))، وإلا فلو علم أنه لا يهدم بعد إعادته على وضع ابن الزبير، لما أنكره، بل يستحبه وندب إليه وحث عليه، فرأى أن التعظيم به أنسب وأولى، ولم يكن ملعبةً، بل سنةً متبعةً، [و] فعلاً جميلاً.
فإن سيد المرسلين، الممهد لنا شرائع الدين، أشار إلى ذلك بما جاء في الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

الصفحة 51