كتاب نوادر الأصول - النسخة المسندة ط النوادر (اسم الجزء: 4)

فمن نظر إلى ذلك، قال في نفسه: فأي شيء بقي؟ ولا يعلم أن من وراء هذا درجة الأولياء المحدثين، تقلقل أحشاءهم إلى آخر رمق من الحياة، حتى تخرج أرواحهم بغصة من الكمد؛ لأنهم خلصوا إلى فردانيته، وتعلقوا بوحدانيته، فظمئت أكبادهم عطشاً إلى لقائه، وهل نال أحد في الدنيا ما نال موسى -صلوات الله عليه- من أن سمع كلامه، أفليس زاده ذلك قلقاً، حتى حمله على سؤال الرؤية، ثم عاش أيام الدنيا عطشان إلى لقائه؟.
فمحال أن يستقر العارف حتى ينكشف له الغطاء يوم الزيادة، ويصل إلى ما سأل كليم الله في الدنيا، فكلما ازداد العبد إليه قرباً، زاده مولاه دنواً، فازداد هيماناً وولهاً حتى يقلق، فيكمد، ويحترق من نيران الشوق، فهذا الغالب عليه حزن القلق، فما بينه وبين مولاه من الأسرار ما سكن عنه خوف التحويل، لا أنه ذهب عنه، ولكنه غاب عنه كما غاب خوف العقوبة عن الصديق؛ لغلبة الهيبة على قلبه.
فإذا نظر إلى قلبه، وجده كالآمن، فإذا نطق، نطق بلسان الخائف للتحويل، فأسراره تعلمه أنه مقبول عنه، وهو في حكمه فيما بينه وبين العباد؛ لأنه لا يدري ما يكون، وأن الله -تبارك اسمه- ركب هذه الشهوات في نفوس بني آدم، فهن أبداً يهوين بصاحبهن عن الله إلى الإخلاد والركون، والنظر، فكلما انكشف الغطاء له عنه، تلاشى هذا الهوى، وهذه الشهوة، حتى تموت نفسه وشهواته، فيطهر، فإن بقي ظله، فعلى حساب

الصفحة 507