كتاب جامع الصحيحين لابن الحداد (اسم الجزء: 4)

[11] ذكر قصة أبي بكر في هجرته إلى الحبشة، ورجوعه عن الطريق، ومقامه مكة، وصبره إلى وقت الهجرة إلى المدينة
في رواية أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: استأذن أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج من مكة حين اشتد عليه الأذى، فقال له: ((أقم))، فانتظره أبو بكر.
3700 - (خ) - حدثنا محمد بن أحمد بن علي، قال: ثنا أحمد بن موسى، قال: قرئ على أحمد بن محمد بن زياد، قال: ثنا عبيد بن شريك، قال: ثنا يحيى بن بكير، قال: ثنا الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة:
#442#
عن عائشة قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا فيه طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة -وهو سيد القارة-، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي عز وجل، فقال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج؛ أنت تكسب المعدم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار؛ فارجع فاعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش، فقال: إن أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، أتخرجون رجلا يكسب المعدم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، وليصل فيها، وليقرأ فيها كما شاء، ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به؛ فإنا نخشى أن يفتتن أبناؤنا ونساؤنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا بقراءته في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم؛ يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على #443# أن يعبد ربه في داره؛ فقد جاوز ذلك، وابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن بالصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا؛ فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه عز وجل في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إلينا ذمتك؛ فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر بالاستعلان، قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر، فقال: يا أبا بكر! قد علمت العقد الذي عاقدت لك عليه؛ فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي؛ فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، قال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله ورسوله [صلى الله عليه وسلم]، قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: ((قد أريت دار هجرتكم سبخة ذات نخل بين لابتين))، وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لهم، ورجع عامة من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((على رسلك؛ فإني أرجو أن يؤذن لي))، قال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: ((نعم))، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر، وهو الخبط، أربعة أشهر.

الصفحة 441