3864 - (خ) - حدثنا جعفر بن إبراهيم المكي، قال: أنا محمد بن الحسين بن شنبويه، قال: أنا محمد بن أحمد النقوي، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: قرأنا على عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير:
عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة -يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه-، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمان الحديبية في بضع عشرة مئة رجل من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الهدي وأشعره، ثم أحرم بالعمرة، وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش، وسار رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، حتى إذا كانوا بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أشيروا علي؛ أترون أن نميل إلى هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت؛ فمن صدنا عنه قاتلناه؟))، فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، يا نبي الله! إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد؛ ولكن من #561# حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فروحوا إذا))، فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي [صلى الله عليه وسلم]: ((إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة؛ فخذوا ذات اليمين))، فوالله ما شعر بهم خالد، حتى إذا هو بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبي [صلى الله عليه وسلم]، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت، فقال النبي [صلى الله عليه وسلم]: ((ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق؛ ولكن حبسها حابس الفيل))، ثم قال: ((والذي نفسي بيده! لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله عز وجل إلا أعطيتهم إياها))، ثم زجرها، فوثبت به، قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبثه الناس أن نزفوه، فشكوا إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، قال: فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: ((إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم؛ فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا قد جموا، وإن أبوا #562# فوالذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره))، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا، فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات، ما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول كذا وكذا، وحدثهم بما قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فقام عروة بن مسعود الثقفي، فقال: أي قوم! ألستم بالولد؟ قالوا بلى، قال: ألست بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا بلى، قال: فإن هذا الذي عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آتيه، قالوا: فائته، فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] نحوا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت إن استأصلت قومك؟ هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟! وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأرى أشوابا من الناس خلقا أن يفروا ويدعوك، فقال أبو بكر رضي الله عنه: امصص ببظر اللات! أنحن نفر وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده! لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، عليه المغفر ومعه السيف، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية #563# رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: هذا المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر! أولست أسعى في غدرتك؟ -وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء)) -، ثم إن عروة بن مسعود جعل يرمق صحابة النبي [صلى الله عليه وسلم] بعينيه وقال: والله ما تنخم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] نخامة إلا وقعت في يد رجل منهم يدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه؛ تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا؛ والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم يدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: ((هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن؛ فابعثوها له))، فبعثت له واستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! #564# ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، قال: فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت، فقال رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا مكرز، وهو رجل فاجر))، فجعل يكلم النبي [صلى الله عليه وسلم]، فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا، فدعا الكاتب، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ((اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم))، قال: سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم؛ كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((اكتب: باسمك اللهم))، ثم قال: ((هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله))، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والله إني لرسول الله؛ وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله))، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((على أن تخلوا بيننا وبين البيت، فنطوف به))، فقال سهيل: والله لا يتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل، فكتب، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟! فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: #565# ((إنا لم نمض الكتاب بعد))، قال: فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا، قال النبي [صلى الله عليه وسلم]: ((فأجره لي))، قال: وما أنا بمجيره لك، قال: ((بلى، فافعل))، قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: بلى، قد أجرناه لك، فقال أبو جندل: أي معاشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟! وكان قد عذب عذابا شديدا في الله عز وجل، فقال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي [صلى الله عليه وسلم]، فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: ((بلى))، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: ((بلى))، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟! قال: ((إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري))، قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: ((بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟))، قلت: لا، قال: ((فإنك آتيه ومطوف به))، قال: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل! إنه رسول الله، وليس يعصي ربه عز وجل، وهو ناصره؛ فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق، قلت: أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((قوموا فانحروا، ثم احلقوا))، قال: فوالله ما قام رجل منهم، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام، فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، #566# فقالت أم سلمة: يا نبي الله! أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك، فيحلقك، فقام، فخرج، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك؛ نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا، فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} حتى بلغ: {بعصم الكوافر}، فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية ابن أبي سفيان والأخر [ى] صفوان بن أمية، ثم رجع إلى المدينة، فجاءه أبو بصير -رجل من قريش-، وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه النبي [صلى الله عليه وسلم] إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فاستله الآخر، فقال: أجل، والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه، فضربه به حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حين رآه: ((لقد رأى هذا ذعرا))، فلما انتهى إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير، فقال: يا نبي الله! قد والله أوفى الله ذمتك؛ قد رددتني، ثم أنجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((ويل أمه! مسعر حرب لو كان له أحد))، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف #567# البحر، قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، قال: فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] تناشده الله عز وجل والرحم لما أرسل إليهم؛ فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأنزل الله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم} حتى بلغ: {حمية الجاهلية}، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت.
وفي الباب مختصرا: عن البراء بن عازب، وأنس بن مالك، وسهل بن حنيف، وابن عمر؛ في كل واحدة فائدة.