كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 4)

الْكَبِيرِ إذْ لِلْمَيِّتِ بِهِ أَجْرُ شَهِيدٍ وَكَذَا لِلْمُقِيمِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ النَّهْيُ عَنْ الْخُرُوجِ لِلْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ، وَعَنْ الْقُدُومِ لِرَفْعِ مَلَامَةِ النَّفْسِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ حِكْمَةُ مَنْعِ الْقُدُومِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ أَحَدٌ لِلْحَتْفِ، وَإِنْ كَانَ لَا نَجَاةَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ مَعَ الصِّيَانَةِ عَنْ الشِّرْكِ لِئَلَّا يَقُولَ الدَّاخِلُ: لَوْ لَمْ أَدْخُلْ لَمْ أَمْرَضْ، وَغَيْرُهُ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ فُلَانٌ لَمْ يَمُتْ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي فِي الْجَمْعِ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ الْفِرَارِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْقُدُومِ أَنَّ الْقُدُومَ عَلَيْهِ تَعَرُّضٌ لِلْبَلَاءِ وَلَعَلَّهُ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ ضَرْبٌ مِنْ الدَّعْوَى لِمَقَامِ الصَّبْرِ، وَالتَّوَكُّلِ فَمُنِعَ ذَلِكَ لِاغْتِرَارِ النَّفْسِ، وَدَعْوَاهَا مَا لَا تَثْبُت عَلَيْهِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، وَأَمَّا الْفِرَارُ فَقَدْ يَكُونُ دَاخِلًا فِي بَابِ التَّوَغُّلِ فِي الْأَسْبَابِ مُتَصَوَّرًا بِصُورَةِ مَنْ يُحَاوِلُ النَّجَاةَ مِمَّا قُدِّرَ عَلَيْهِ، وَيُشِيرُ إلَى مَا قَرَّرْته قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُ فَاصْبِرُوا» فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ التَّمَنِّي لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْبَلَاءِ، وَخَوْفِ الْإِضْرَارِ بِالنَّفْسِ، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْوُقُوعِ تَسْلِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. اهـ.
وَخَرَجَ بِالْفِرَارِ مِنْ مَحَلِّ الطَّاعُونِ الْفِرَارُ مِنْ أَرْضِ الْوَبَاءِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَالَهُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ، وَعِبَارَتُهُ الْوَبَاءُ غَيْرُ الطَّاعُونِ، وَالطَّاعُونُ أَخَصُّ مِنْ الْوَبَاءِ وَقَدْ اُخْتُصَّ أَيْ: الطَّاعُونُ بِكَوْنِهِ شَهَادَةً، وَرَحْمَةً، وَبِتَحْرِيمِ الْفِرَارِ مِنْهُ، وَهُوَ مِنْ الْوَبَاءِ بِغَيْرِهِ كَالْحُمَّى، وَمِنْ سَائِرِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَبَاءِ، وَالطَّاعُونِ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ هُوَ.
وَسَيَأْتِي إيضَاحُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَتَرَدَّدَ بَعْضُهُمْ فِيمَا لَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ الَّتِي وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ وَخِمَةً، وَالْأَرْضُ الَّتِي يُرِيدُ التَّوَجُّهَ إلَيْهَا صَحِيحَةً فَتَوَجَّهَ إلَيْهَا بِهَذَا الْقَصْدِ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ أَنَّ مِنْ السَّلَفِ مَنْ مَنَعَ نَظَرًا إلَى صُورَةِ الْفِرَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْخُرُوجِ فِرَارًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَخَّضْ الْفِرَارُ اهـ.
وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ تَرْجِيحُهُ عَلَى قَوَاعِدِنَا أَنَّهُ إنْ خَرَجَ بِقَصْدِ التَّدَاوِي أَوْ حَاجَةٍ أُخْرَى جَازَ أَوْ بِقَصْدِ الْفِرَارِ، وَلَوْ مَعَ قَصْدِ التَّدَاوِي أَوْ غَيْرِهِ حَرُمَ كَمَا مَرَّ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَوْ عَمَّ إقْلِيمًا لَمْ يَحْرُمْ الْخُرُوجُ مِنْ بَعْضِ قُرَاهُ إلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَا فِرَارَ حِينَئِذٍ أَلْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ لَوْ خَصَّ مَحَلَّةً مِنْ بَلْدَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ شَيْءٌ فِي بَقِيَّةِ مَحَلَّاتِ تِلْكَ الْبَلَدِ كَانَ حُكْمُ الْمَحَلَّةِ حِينَئِذٍ كَحُكْمِ الْبَلَدِ الْمُسْتَقِلِّ، فَيَحْرُمُ الْخُرُوجُ مِنْهَا فِرَارًا، وَالدُّخُولُ إلَيْهَا أَيْ: لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ هُنَا، وَفِيمَا مَرَّ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ الْخُرُوجُ لِحَاجَةٍ جَازَ الدُّخُولُ قِيَاسًا إذْ لَا يَظْهَرُ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فِي ذَلِكَ فَإِنْ قُلْت: يُنَافِي هَذَا مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي الْبَلَدِ عَمَّ جَمِيعَ مَنْ فِيهِ بِمُدَاخَلَةِ سَبَبِهِ.
قُلْت: لَا مُنَافَاةَ؛ لِأَنَّ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَحَلَّةَ لَيْسَتْ كَالْبَلَدِ فِيمَا إذَا تَحَقَّقْنَا اخْتِصَاصَهُ بِهَا، وَتَحَقَّقْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِهِ فِي بَقِيَّةِ الْبَلَدِ فَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ لِغَيْرِ أَهْلِ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ دُخُولُهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَالْخُرُوجُ مِنْهَا بِقَصْدِ الْفِرَارِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ نَتَحَقَّقْ ذَلِكَ فَحُكْمُ بَقِيَّةِ الْبَلَدِ حُكْمُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي بَلَدٍ عَمَّ جَمِيعَ مَنْ فِيهِ بِمُدَاخَلَةِ سَبَبِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَتَى تَحَقَّقَ اخْتِصَاصُهُ بِمَحَلٍّ مِنْ بَلَدٍ، وَتَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِهِ فِي بَقِيَّةِ تِلْكَ الْبَلَدِ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ كَبَلَدٍ مُسْتَقِلَّةٍ، فَيَحْرُمُ الدُّخُولُ، وَالْخُرُوجُ إلَيْهِ بِقَيْدِهِمَا السَّابِقِ، وَأَنَّهُ مَتَى لَمْ نَتَحَقَّقْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ مُغَايِرٌ لِذَلِكَ الْبَلَدِ.
وَسَيَأْتِي بَحْثُ الزَّرْكَشِيّ أَنَّ السَّاكِنَ قَرِيبًا مِنْ بَلَدِ الطَّاعُونِ لَا يُعْطَى حُكْمَهَا، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ لِمَنْ قَرُبَ مِنْ بَلَدِهِ وَلَمْ يَدْخُلْهَا الرُّجُوعَ، وَلَوْ بِقَصْدِ الْفِرَارِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا أَفْهَمَتْهُ التَّعَالِيلُ السَّابِقَةُ فِي حِكْمَةِ مَنْعِ الدُّخُولِ، وَالْخُرُوجِ، وَمَرَّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إلَى قَدَرِ اللَّهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَاهُ.
وَصَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ، وَالطَّاعُونِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الطَّاعُونُ قَالَ: وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنْ الْجِنِّ، وَفِي كُلٍّ شَهَادَةٌ» .
، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الطَّاعُونِ فَقَالَ «غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْإِبِلِ الْمُقِيمُ فِيهَا كَالشَّهِيدِ، وَالْفَارُّ مِنْهَا كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْفِ» ، وَسَنَدُهَا حَسَنٌ

الصفحة 11