كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 4)
السَّيِّدَ قَصَدَ بِهَذَا الْإِحْسَانِ إلَيْهِ حَمْلَهُ عَلَى خِلَافِ مَا اعْتَادَهُ أَبْنَاءُ جِنْسِهِ وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى النَّوَافِلِ أَيْضًا فَلَا قَرِينَةَ لَهُ قَوِيَّةً حَتَّى نَأْخُذَ بِهَا.
ثُمَّ رَأَيْتُ عَنْ الْقَلَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرْتُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ إلَّا حَافَظْتَ عَلَى الصَّلَاةِ فَأَنْتَ حُرٌّ يَقَعُ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ لِوُقُوعِهِ أَيْ الْعِتْقِ مُحَافَظَتُهُ عَلَيْهَا مُدَّةَ اسْتِبْرَاءِ الْفَاسِقِ إذَا تَابَ وَهِيَ سَنَةٌ. اهـ. وَكَأَنَّ هَذَا ضَبْطٌ لِلْعُرْفِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِهِ قَوْلُهُمْ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ إنَّهَا مِلْكَهُ تَحْمِلُ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُمْ حَدُّوا تِلْكَ الْمُلَازَمَةَ لِلتَّقْوَى بِسَنَةٍ فَجَعَلُوا مُضِيَّ سَنَةٍ عَلَيْهِ وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلتَّقْوَى مُحَصِّلًا لِتِلْكَ الْمَلَكَةِ الْحَامِلَةِ عَلَى تِلْكَ الْمُلَازَمَةِ فَكَانَ هَذَا تَصْرِيحًا مِنْهُمْ بِحُصُولِ تِلْكَ الْمُلَازَمَةِ بِسَنَةٍ فَكَذَلِكَ الْقَصْدُ بِهَذَا التَّعْلِيقِ مُحَافَظَتُهُ عَلَى الصِّيَانَةِ وَالتَّقْوَى فَإِذَا مَضَتْ عَلَيْهِ سَنَةٌ وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ فِي أَوْقَاتِهَا فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ مَلَكَةُ الْمُلَازَمَةِ فَوُجِدَ مَقْصُودُ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْتَ قَدْ يَتَّخِذُ الرَّقِيقُ مُلَازَمَةَ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَسِيلَةً لِعِتْقِهِ فَحَسْب ثُمَّ يُعْرِضُ عَنْهَا إذَا عَتَقَ قُلْتُ: لَا نَظَرَ لِذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا فُسِّقَ رُبَّمَا اتَّخَذَ تِلْكَ الْمُلَازَمَةَ وَسِيلَةً لِعَوْدِ عَدَالَتِهِ فَقَطْ وَلَمْ يَنْظُرُوا لِذَلِكَ اكْتِفَاءً بِالْمَظِنَّةِ الْغَالِبِ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِهَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ طَبَائِعُ أَرْبَعَةٌ كُلٌّ مِنْهَا يَتَحَرَّكُ فِي الْفَصْلِ الْمُنَاسِبِ لَهُ إلَى الشَّهَوَاتِ وَالْبَطَالَاتِ فَحَيْثُ مَضَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْفُصُولُ وَلَمْ يَمِلْ طَبْعَهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْوَى إلَى ضِدِّهَا الْحَامِل عَلَيْهِ الزَّمَنُ وَغَوَائِلُ الْمِحَنِ
عُلِمَ أَنَّ التَّقْوَى صَارَتْ لَهُ كَالطَّبِيعَةِ وَالْمَلَكَةِ الرَّاسِخَةِ الَّتِي لَا تَزُولُ غَالِبًا فَاكْتَفَوْا بِتِلْكَ الْمَظِنَّةِ الدَّالِّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى الْعَوَارِضِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لِأَنَّهَا غَيْبٌ عَنَّا هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَأَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى أَعْنِي أَعْتَقْتُكَ بِشَرْطِ أَنْ تُلَازِمَ عَلَى الصَّلَوَاتِ فَبَيَانُ مَا قُلْتُهُ فِيهَا مِنْ أَنَّهُ لَا مَالَ عَلَيْهِ فِيهَا هُوَ أَنَّ الْعَرْضَ الْمُتَقَوِّمَ يَجِبُ هُوَ أَوْ بَدَلُهُ بِشَرْطِ الْقَبُولِ وَغَيْرَ الْمُتَقَوِّمِ يَقَعُ الْعِتْقُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْإِعْتَاقِ وَلَا يَحْتَاجُ لِقَبُولٍ كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى دَمٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِالْعِوَضِيَّةِ كَالْحَشَرَاتِ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَلَا مَالَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا لَمْ يُقْصَدْ بِالْعِوَضِيَّةِ بِحَالِ كَانَ الْمُطَلِّقُ غَيْرَ طَامِعٍ فِي شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا قَدْ تُقْصَدُ لِلضَّرُورَةِ وَلِلْجَوَارِحِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَرَضَ الَّذِي هُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ لِأَنَّهُ لَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ عُرْفًا وَلَا شَرْعًا لِوُجُوبِهِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَالْوَاجِبُ الْعَيْنِيُّ الْمُتَعَلِّقُ بِالنَّفْسِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ عِوَضٍ عَلَيْهِ أَصْلًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ يَأْتِي فِيهِ مَا فِي الْخُلْعِ عَلَى الدَّمِ مِمَّا تَقَرَّرَ فَإِنْ قُلْتَ هَلْ يَصِحُّ قِيَاسُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا مَرَّ فِي قَوْلِهَا لِقِنِّهَا أَعْتَقْتُكَ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجنِي قُلْتُ الْحُكْمُ وَاحِدٌ لَكِنَّ الْمَلْحَظَ فِي التَّعْلِيلِ مُخْتَلِفٌ لِقَوْلِهِمْ فِي هَذِهِ إنَّ هَذَا خَرَجَ عَنْ الْعِوَضِيَّةِ إلَى الْوَعْدِ الْجَمِيلِ فَكَأَنَّهَا أَعْتَقَتْهُ عَلَى أَنْ تُعْطِيَهُ أَلْفًا فَيَعْتِقُ فِيهِمَا بِلَا قَبُولٍ لِعَدَمِ الْعِوَضِيَّةِ وَانْقِلَابِهَا إلَى الْوَعْدِ الْجَمِيلِ لِأَنَّهَا لَمْ تَشْتَرِطْ عَلَيْهِ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ أَصْلًا
وَأَمَّا صُورَتُنَا فَفِيهَا عِوَضِيَّةٌ بِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ أَيْ مَشَقَّةٌ عَلَى الْعَتِيقِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ تُقَابَلْ تِلْكَ الْمَشَقَّةِ بِمَالٍ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا سَلَخْنَاهُ عَنْ الْعِوَضِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّقْوِيمِ وَجَعَلْنَاهُ كَأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فَاتَّضَحَ أَنَّهُ لَا جَامِعَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الْعِلَّةِ حَتَّى يَصِحَّ قِيَاسُ مَا فِي السُّؤَالِ عَلَى هَذِهِ وَلَوْلَا مَا قَرَّرُوهُ مِنْ أَنَّ الْعِتْقَ عَلَى شَرْطٍ كَالطَّلَاقِ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِ عِوَضِهِ وَغَيْرِهَا لِمَا اتَّضَحَ فِي صُورَةِ الْعِتْقِ عَلَى مُحَافَظَةِ الصَّلَوَاتِ وَمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ يَعْتِقُ بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ سَوَاءٌ أَحَافَظَ عَلَيْهَا أَمْ لَا وَلَا رُجُوعَ لِسَيِّدِهِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ أَصْلًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ شَخْصٍ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَالِ أَيْتَامٍ ثُمَّ إنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْمَالِ بِبَيْعٍ وَشِرَاءٍ ثُمَّ اشْتَرَى جَارِيَةً وَأَعْتَقَهَا ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الدَّيْنِ طَالَبُوهُ فَمَا
الصفحة 389
397