كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 4)

عَلَيْك بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إيجَابٍ وَقَبُولٍ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ جَدِيدٌ لِمَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ مَلَكَ الْمُوصَى بِهِ مِلْكًا تَامًّا فَلَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا بِصِيغَةٍ تُفِيدُ التَّمْلِيكَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ وَصِيٍّ شَاهِدٍ عَلَى طِفْلٍ بِمُوصًى بِهِ لِآخَرَ فِي مُخَلَّفٍ إلَى هَذَا الطِّفْلِ لَا شَاهِدَ بِهِ غَيْرُهُ هَلْ لَهُ تَنْفِيذُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الْوَصِيَّ حَيْثُ عَلِمَ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى بِشَيْءٍ لِإِنْسَانٍ وَصِيَّةً صَحِيحَةً وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ جَازَ لَهُ بَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ لَهُ لَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بَاطِنًا حَيْثُ لَمْ يَخْشَ مِنْ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُهَا إلَى الْمُوصَى لَهُ لَزِمَهُ إمْسَاكُهَا وَعَدَمُ التَّصَرُّفِ فِيهَا حَتَّى يَكْمُلَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعْلِمَهُ بِالْحَالِ لِيَبْرَأَ مِنْ عُهْدَتِهَا هَذَا مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْوَصِيَّ فِي مَالِ الْمُوصَى عَلَيْهِ مُتَصَرِّفًا لَهُ
بِالْمَصْلَحَةِ
وَهَذَا مِنْ الْمَصْلَحَةِ كَمَا أَنَّهُ لَوْ خَافَ عَلَى الْمَالِ مِنْ اسْتِيلَاءِ ظَالِمٍ جَازَ لَهُ تَخْلِيصُهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ.
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَمِنْ هَذَا مَا لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا لِقَاضِي سُوءٍ لَانْتَزَعَ مِنْهُ الْمَالَ، وَسَلَّمَهُ لِبَعْضِ خَوَنَتِهِ، وَأَدَّى ذَلِكَ إلَى اسْتِئْصَالِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يَتَحَرَّى فِي أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْضَى بِهِ الظَّالِمُ، وَالظَّاهِرُ تَصْدِيقُهُ إذَا نَازَعَهُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بَعْدَ رُشْدِهِ فِي بَذْلِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ الْقَرَائِنُ قَالَ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يَجُوزُ تَغْيِيبُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالسَّفِيهِ، وَالْمَجْنُونِ لِحِفْظِهِ إذَا خِيفَ عَلَيْهِ الْغَصْبُ كَمَا فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَبَحَثَ الْأَذْرَعِيُّ هُنَا أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ لِهَذَا الْغَرَضِ إلَّا إنْ دَلَّتْ الْحَالُ عَلَى صِدْقِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا، وَتَصْدِيقِهِ فِيمَا مَرَّ ذَكَرْته فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ أَوْصَى بِقِرَاءَةِ خَتْمَةٍ أَوْ أَكْثَرَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَارِئُ فِي الْخَتَمَاتِ وَاحِدًا أَوْ لَا بُدَّ مِنْ جَمَاعَةٍ وَهَلْ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى خَتْمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ لَا وَهَلْ يَكُونُ الْقَارِئُ الْمُوصَى بِهِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الَّذِي يُتَّجَهُ أَخْذًا مِنْ كَلَامِهِمْ سِيَّمَا كَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ الَّذِي ذَكَرْته فِي أَوَائِلِ الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي زَمَنِ الْمُوصِي عَادَةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي قِرَاءَةِ تِلْكَ الْخَتْمَةِ أَوْ الْخَتْمَاتِ وَجَبَ عَلَى الْوَصِيِّ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا اطَّرَدَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَادَةٌ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَارِئُ وَاحِدًا سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُوصَى بِهِ خَتْمَةً أَمْ أَكْثَرَ ثُمَّ إنْ كَانَ لَفْظُ الْمُوصِي أَوْصَيْت بِقِرَاءَةِ خَتْمَةٍ كَانَ الْوَاجِبُ قِرَاءَةَ خَتْمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَوْصَيْت بِقِرَاءَةِ خَتَمَاتٍ كَانَ الْوَاجِبُ ثَلَاثَ خَتَمَاتٍ، وَإِذَا عَيَّنَ الْوَصِيُّ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ لِلْقِرَاءَةِ فَقَبِلَ وَقَرَأَ مَلَكَ الْمُوصَى بِهِ.

(وَسُئِلَ) عَمَّا إذَا أَوْصَى لِمَنْ بَاتَ يَقْرَأُ عَلَى قَبْرِهِ هَلْ لَهُ النَّوْمُ إذَا غَلَبَهُ فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ فَهَلْ يَقْضِي مَا فَاتَهُ مَثَلًا وَإِذَا تَرَكَ لَيْلَةً بَاتَ الْمُوصِي فِي الْقَبْرِ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا هَلْ يَقْضِي أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الَّذِي يُتَّجَهُ كَمَا يَشْهَدُ لَهُ قِيَاسُ نَظَائِرِهِ أَنَّ مَنْ أَوْصَى لِمَنْ بَاتَ يَقْرَأُ عَلَى قَبْرِهِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ اسْتِيعَابُ اللَّيْلِ بِالْقِرَاءَةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُهُ إحْيَاءُ أَكْثَرِهِ بِالْقِرَاءَةِ، وَحِينَئِذٍ فَإِنْ أَحْيَا الْأَكْثَرَ جَازَ لَهُ نَوْمُ الْبَاقِي سَوَاءٌ أَغَلَبَهُ النَّوْمُ قَبْلَ أَنْ يُحْيِيَ الْأَكْثَرَ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ النَّوْمُ لَكِنْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مِثْلِ ذَلِكَ الزَّمَنِ الَّذِي فَوَّتَهُ وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لَوْ تَرَكَ الْمَبِيتَ لَيْلَةً كَامِلَةً سَوَاءٌ أَكَانَ عَامِدًا أَمْ سَاهِيًا فَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ الْقَضَاءُ بِأَنْ اسْتَغْرَقَتْ الْوَصِيَّةُ جَمِيعَ اللَّيَالِي حُسِبَ عَلَيْهِ مَا فَوَّتَهُ مِنْ جَامِكِيَّتِهِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا أَفْهَمَهُ كَلَامُ النَّوَوِيِّ فِي فَتَاوِيهِ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ أَنَّ الْمُدَرِّسَ أَوْ نَحْوَهُ لَوْ عَطَّلَ التَّدْرِيسَ أَيَّامًا فِي الشَّهْرِ حُسِبَ عَلَيْهِ مِنْ جَامِكِيَّتِهِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ ضَعِيفٌ.
فَإِنْ قُلْت: أَفْتَى الْبُرْهَانُ الْمَرَاغِيُّ بِأَنَّ مَنْ حُبِسَ ظُلْمًا عَنْ مُبَاشَرَةِ مَثَلًا وَظَائِفِهِ اسْتَحَقَّ جَامَكِيَّةً مُدَّةَ حَبْسِهِ قُلْت: مَا أَفْتَى بِهِ ضَعِيفٌ، وَالْقِيَاسُ خِلَافُهُ، وَمِنْ ثَمَّ عَرَضَ مَا أَتَى بِهِ عَلَى التَّاجِ الْفَزَارِيّ فَامْتَنَعَ مِنْ مُوَافَقَتِهِ كَمَا ذَكَرَهُ جَامِعُ فَتَاوَى التَّاجِ الْمَذْكُورِ، وَغَيْرُهُ ثُمَّ رَأَيْت الزَّرْكَشِيّ نَقَلَ عَنْ التَّاجِ أَنَّهُ أَفْتَى بِأَنَّ مَنْ تَوَلَّى وَظِيفَةً، وَأُكْرِهَ عَلَى عَدَمِ مُبَاشَرَتِهَا اسْتَحَقَّ الْمَعْلُومَ ثُمَّ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالظَّاهِرُ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّهَا جِعَالَةٌ، وَهُوَ لَمْ يُبَاشِرْ اهـ. وَيُجْمَعُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ بِأَنْ يَكُونَ التَّاجُ مِمَّنْ لَمْ يُوَافِقْ الْبُرْهَانَ أَوْ لَا ثُمَّ وَافَقَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَا

الصفحة 8