كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 4)

قَالَاهُ ضَعِيفٌ، وَالْمُعْتَمَدُ خِلَافُهُ كَمَا تَقَرَّرَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا حُكْمُ الْفِرَارِ، وَالْمَجِيءِ مِنْ مَكَانِ الطَّاعُونِ، وَإِلَيْهِ وَهَلْ حُكْمُ مَكَانِهِ فِي بُيُوتِ الْجِيرَانِ كَحُكْمِ مَكَانِهِ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى وَهَلْ صَحَّ أَنَّهُ وَخْزٌ مِنْ الْجِنِّ، وَإِذَا خَصَّ فِي قَرْيَةٍ فِي الصِّغَارِ، وَنَادِرًا فِي الْكِبَارِ هَلْ يَكُونُ التَّبَرُّعُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ الثُّلُثِ إذَا مَاتَ وَقْتَ الطَّاعُونِ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ.
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْأَصْلُ فِي امْتِنَاعِ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 243] الْآيَةَ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ فِرَارِهِمْ، وَأَحْسَنُ الطُّرُقِ، وَأَقْوَاهَا أَنَّ فِرَارَهُمْ كَانَ بِسَبَبِ الطَّاعُونِ، وَفِي مُدَّةِ مَوْتِهِمْ فَقِيلَ: سَبْعَةُ أَيَّامٍ وَقِيلَ: ثَمَانِيَةٌ وَقِيلَ: شَهْرٌ، وَقِيلَ: أَكْثَرُ مِنْهُ بِحَيْثُ بَلِيَتْ أَجْسَادُهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُمْ رَجَعُوا وَقَدْ تَوَالَدَتْ ذُرِّيَّتُهُمْ، وَفِي عَدَدِهِمْ، وَمُعْظَمِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَصَوَّبَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُمْ كَانُوا أَزْيَدَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ؛ لِأَنَّ الْأُلُوفَ جَمْعُ كَثْرَةٍ، وَتَبِعَهُ جَمْعٌ.
وَأَكْثَرُ مَا قِيلَ: أَنَّهُمْ سِتُّ مِائَةِ أَلْفٍ، وَمِنْ غَرَائِبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ أُلُوفٌ جَمْعُ آلِفٍ كَجُلُوسٍ جَمْعُ جَالِسٍ فَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى الْعَدَدِ بَلْ عَلَى تَأَلُّفِ قُلُوبِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ كَمَا قَالَهُ الرَّازِيّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَرِهَ فِرَارَهُمْ مِنْ الطَّاعُونِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب: 16] وقَوْله تَعَالَى {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] وقَوْله تَعَالَى {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] ، وَفِي امْتِنَاعِ الدُّخُولِ إلَى مَكَانِهِ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الطَّاعُونَ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ، وَعَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» .
، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا «أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَرَجَ إلَى الشَّامِ فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهَا أُخْبِرَ أَنَّ بِهَا طَاعُونًا فَاسْتَشَارَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَرَأَى بَعْضُهُمْ الدُّخُولَ لِيَتِمَّ مَا خَرَجُوا إلَيْهِ، وَبَعْضُهُمْ عَدَمَهُ خَوْفًا عَلَى مَنْ مَعَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ دَعَا الْأَنْصَارَ فَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ دَعَا مَشْيَخَةَ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، وَهُمْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْفَتْحِ فَحَصَلَ لَهُمْ فَضْلٌ بِالْهِجْرَةِ قَبْلَهُ إذْ لَا هِجْرَةَ بَعْدَهُ فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى الرُّجُوعِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ فَنَادَى عُمَرُ بِذَلِكَ فِي النَّاسِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ: أَوَغَيْرُك قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إلَى قَدَرِ اللَّهِ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ لَك إبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ، وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إنْ رَعَيْت الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْت الْجَدْبَةَ رَعَيْتهَا بِقَدَرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَوَائِجِهِ فَقَالَ: إنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ فَحَمِدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ثُمَّ انْصَرَفَ» .
، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الطَّاعُونُ مَثَلًا وَالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْقَاضِي عِيَاضٍ الْمَالِكِيَّيْنِ أَنَّ النَّهْيَ فِي ذَلِكَ لِلتَّحْرِيمِ ثُمَّ زَادَ الثَّانِي أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: هُوَ كَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى إمَامُ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا ابْنُ خُزَيْمَةَ فَإِنَّهُ تَرْجَمَ فِي صَحِيحِهِ بَابُ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُعَاقِبُ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَعْفُ عَنْهُ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ يَعْنِي قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْفِرَارُ مِنْ الطَّاعُونِ كَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَغَيْرُهُمْ.
، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيّ، وَتَبِعَهُ الْمُحَقِّقُونَ: مَذْهَبُنَا، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْفِرَارِ مِنْهُ لِلتَّحْرِيمِ وَكَلَامُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ الْقُدُومِ عَلَى بَلَدِ الطَّاعُونِ كَالْفِرَارِ مِنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ

الصفحة 9