كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 4/ 1)
العدل، والذي يدفع هذه الشبهة التي يلهج بها هؤلاء الرهط، ويصرفك عن أن تحدث نفسك بمحاكاتهم، هو: أن القرآن الحكيم يقول: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، فأَذِنَ في تعدد المنكوحات، وأتى بالإذن في صيغة الأمر، ثم فصَّل في المأذون في نكاحهن، فجعلهم اثنتين وثلاثًا وأربعًا، وانتهى عند حد الأربع، فيؤخذ من الآية بمقتضى الأسلوب العربي: أنه يباح لكل أحد أن يتزوج ما زاد على واحدة، من اثنتين، أو ثلاث، أو أربع، ويبقى على ما زاد على الأربع في حكم المحظور، ويؤخذ من قصر الرجل على الواحدة عند خوفه من عدم العدل: أن الإذن في تزوج اثنتين أو ثلاث أو أربع مقيد بالعدل بينهن، والمراد من العدل: التسوية بينهن فيما يستطيعه؛ من نحو: النفقة، والمبيت، أما العدل الذي جعل متعذرًا في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]، فهو التسوية بين النساء في كل شيء، حتى الحب والإقبال والمؤانسة، فإن التسوية على هذا الوجه خارجة عن الاستطاعة، فقد تكون إحداهن أبرع جمالاً، وأعذب منطقاً، فتكون أعلق بالقلب، فينجذب إلى جانبها، فيقبل عليها، أو يؤانسها أكثر مما يفعل مع الأخرى، يقع منه ذلك وهو لا يقصد إلى اشارها بهذا الإقبال أو المؤانسة، وإنما هو أمر لا اختيار له فيه، وهو شدة حبها الناشئة عن نحو براعة جمالها، وعذوبة منطقها.
وانظر إلى قوله تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]، تجده صريحاً في العفو عن هذا الميل الخفيف الذي يتعذر على الرجل اجتنابه، فلو كان المراد من العدل الذي ذكره في هذه الآية: العدل الذي جعله شرطاً للتعدد، لكان المناسب في النظم أن يأمر بالاقتصار
الصفحة 258
290