كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 4/ 1)

المفسدة فيما كانت الدلالة وسيلة إليه، وهو إصابة النفس البريئة بالأذى. ويدلّك على أن مثل مناولة السكين، ودلالة الظالم على مكان البريء لا تحمل في نفسها مفسدة: أنها توجد في بعض الأحيان دون أن ينشأ عنها في الخارج فساد؛ كأن يقوم مانع من استعمال السكين في معصوم الدم، أو ينصرف الظالم عن أذية من دُلَّ على مكانه. وتخلف المفسدة عن الوسيلة لعارض لا يرفع الإثم عن فاعلها؛ لأن الإثم منوط بفعل الوسيلة، مع العلم بما شأنها أن تفضي إليه من فساد.
ومن حكمة التشريع الإِسلامي: أنه لم يقصر النظر على ما يحتوى المفسدة بنفسه، بل وجّة نظره إلى وسائل ما فيه المفسدة، فمنعها. والنصوص الواردة في الكتاب والسنّة للنهي عن وسائل ما تقع المفسدة بوقوعه غير قليلة. ومن شواهد هذا: قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)} [النور: 30]، فالأمر بغض البصر من ناحية أن النظر يثير الهوى، والهوى يدفع إلى ارتكاب مفسدة هتك الأعراض، واختلاط الأنساب.
ومن هذه الشواهد: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] منع المسلمين من أن يقولوا: {رَاعِنَا}، مع قصدهم إلى طلب الرعاية؛ سدًا لباب كان اليهود يدخلون منه إلى سب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ يستعملون هذه الكلمة، ولا يقصدون منها طلب الرعاية، وإنما يقصدون بها معنى اسم الفاعل المأخوذ من الرعونة.
ومن هذا الباب: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]؛ فقد نهى عن سب معبودات المشركين

الصفحة 52