كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 4/ 1)

ومما يساق في الحديث عن هذا القسم: أن الشريعة تحرم على الإنسان أن يقرض آخر عشرة دنانير - مثلاً - على أن يردها إليه خمسة عشرة دينارًا، فإن هذه العقدة هي الربا بعينه، ولو باع زيد سلعة لعمرو بخمسة عشر مؤجلة، ثم اشتراها منه بعشرة نقداً، لكان مآل هذا البيع والشراء إلى أن زيداً دفع إلى عمرو عشرة نقداً، وأخذ منه بعد أجل مسمّىً خمسة عشر، ومثل هذه الصورة قد يقصد فيها زيد وعمرو إلى البيع والشراء على وجه البت، ثم يبدو لزيد أن يشتري ما باع، فيكون هناك عقدان، كل منهما مستقل عن الآخر، فيفارق هذا البيع والشراء عقدة الربا.
فإن قصدا من البيع والشراء إعطاء عشرة ليؤخذ بدلها خمسة عشر عند الأجل، فقد جعلا هذه المعاملة وسيلة إلى ما حرّم من الربا؛ لأنها - وإن جرت بألفاظ البيع والشراء - تشتمل على معنى الربا من جميع أطرافه.
ومن كبار الأئمة من يمنع هذه المعاملة حيث يكثر قصد الناس فيها إلى القرض بمنفعة. ويستند في هذا المنع إلى قاعدة سد ذرائع الفساد.
وقد بلغ بعض الفقهاء في مراعاة سد الذرائع أنه كره فعل بعض المندوبات إذا كان إظهارها، والمواظبة عليها وسيلة إلى اعتقاد العامة سنيتها أو وجوبها. وكان الإِمام مالك - رضي الله عنه - يكره المجيء إلى بيت المقدس؛ خيفة أن يتخذ الناس ذلك سنّة، وقال سعيد بن حسان: كنت أقرأ على ابن نافع، فلما مررت بحديث التوسعة ليلة عاشوراء، قال لي: حرِّق (¬1) عليه، قلت: ولم ذلك يا أبا محمد؟ قال: خوفاً من أن يتخذ سنّة، وقد ذكرنا فيما سبق أن الإِمام مالكاً كره إتباع
رمضان بصوم ستة أيام من شوال؛ مخافة أن يعتقد العامة أنها في حكم صوم
¬__________
(¬1) كذا في "الاعتصام" للشاطبي. ويطلق التحريق بمعنى: الحك، والبرد بالمبرد.

الصفحة 58