كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 4/ 1)

المصالح؛ فإن مالكاً يقول: إن المجتهد إذا استقرأ موارد الشرع ومصادره، أفضى نظره إلى العلم برعاية المصالح في جزئياته، وكلياته، وأن لا مصلحة إلا وهي معتبرة في جنسها, لكنه استثنى من هذه القاعدة كل مصلحة صادمها أصل من أصول الشريعة، وما حكاه أصحاب الشافعي عن الشافعي لا يعدو هذه المقالة.
ولهذه القاعدة أمثلة مسوقة في كتب الأصول من فتاوى السلف وأقضيتهم، ومن هذه الأمثلة: قضاء الصحابة - رضي الله عنهم - بتضمين الصناع، فالرجل ينصب نفسه لصناعة؛ كالخياطة، أو الصبغ، فيدفع إليه شخص ثوباً ليخيطه أو يصبغه، فيدعي ضياعه، ولم يقم بينة على أنه تلف بغير سبب منه، فيقضى على الصانع بضمان الثوب؛ أخذًا بقاعدة المصالح المرسلة، ووجه المصلحة في هذا المثال: أن الناس في حاجة شديدة إلى الصنّاع، وهم يغيبون بالأمتعة عن أعين أصحابها, وليس من شأنهم الاحتياط في حفظها، فمن المصلحة القضاء بضمانهم حتى لا تضيع أموال كثيرة، وهذا معنى قول علي- كرم الله وجهه -: "لا يصلح الناس إلا ذاك"؛ يعني: تضمين الصنّاع.
ومن أمثلته: قتل الجماعة بالواحد؛ فإن القصاص الوارد في النص هو قتل النفس بالنفس، فإذا اشترك جماعة في قتل شخص واحد، فهي قضية لم يوجد لها دليل معين، وقد ذهب الإمامان: مالك، والشافعي إلى قتل الجماعة بالواحد، وهو ما يروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، والمستند في هذا: قاعدة المصالح المرسلة، ووجه المصلحة: أن عدم أخذ الجماعة بالقصاص يذهب بدم القتيل المعصوم هدراً، ويفتح باباً قصد الشارع إلى إغلاقه، وهو باب سفك الدماء البريئة؛ فإن الجماعة متى أمنوا من عقوبة القصاص

الصفحة 63