كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 4/ 1)

وقد ادّعى بعض أهل العلم من غير المالكية: أن الإمام مالكاً أفتى - بانياً على قاعدة المصالح المرسلة - بجواز قتل ثلث العامة لمصلحة الثلثين، والمالكية ينكرون نسبة هذه الفتوى إلى الإمام مالك أشد الإنكار، ويقولون: إنها لم تنقل في كتبهم البتة، وإنما تكلموا كما تكلم غيرهم في مسألة العدو يضع أمامه الأسرى المسلمين يتترس بهم في الحرب، فأفتوا بأنه يجوز دفاع العدو بنحو الرمي متى خيف استئصال الأمة، ولو أفضى الدفاع إلى قتل أولئك الأسرى من المسلمين.
ونقرأ في ترجمة الشيخ علاء الدين الجمالي أحد فقهاء الحنفية: أن السلطان سليماً همَّ بقتل جماعة خالفوا أمر السلطان في بيع الحرير، فدخل عليه الشيخ علاء الدين منكراً عليه قتلهم، فقال له السلطان: أما يحل قتل ثلث العالم لنظام الباقي؟ فقال الشيخ علاء الدين: نعم، ولكن إذا أدى الحال إلى خلل عظيم، فعفا السلطان عن الجميع.
وقد حقق الباحثون في المصالح المرسلة النظر، وأجروها في أبواب المعاملات، وتجنبوا بها أصول العبادات؛ لأن المتفقه في علم الشريعة يدرك أن أحكام المعاملات مبنية على رعاية المصالح المدنية التي يتيسر للعقول السليمة، متى تلقتها من الشارع؛ وغاصت في تدبرها من كل جانب، أن تقف على أسرارها، وترى خير الحياة في التمسك بها، وأما العبادات، ففيها ما تستبين حكمته، ويبدو القصد من مشروعيته واضحاً، ومنها ما لم تقف العقول على حكمته الخاصة، وحسب العقل في الإيمان بحكمة ما كان من هذا القبيل: أنه صادر ممن قام الدليل القاطع على أنه لا يأمر إلا بخير. ولا يجد في هذا الإيمان حرجاً، ما دامت العبادات - على اختلاف ضروبها -

الصفحة 66