كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 4/ 2)

الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.
والمشورة سنة متبعة عند بعض الأمم من قديم الزمان، وردت في قصة بلقيس حين دعاها وقومها رسولُ الله سليمان - عليه السلام - أن لا يعلوا عليه، ويأتوه مسلمين، قال الله تعالى: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 32 - 34]. ووردت الشورى في قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه، قال الله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: 109 - 111]. وكأن قاعدة الشورى بين فرعون وملئه لم تطرد على أساس صحيح؛ بدليل ما سام به بني إسرائيل من العذاب المبين.
وقطع مجلس الشورى عند فرعون رأيه، وأبرم في النازلة حكمه؛ لأنه فوض إليهم ذلك بقوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}؟ وليس له من الأمر شيء سوى تنفيذ أعمالهم، والعمل بما يشيرون؛ بخلاف مجلس الشورى عند ملكة سبأ، فلم يزيدوا على أن عرضوا عليها رأيهم بطريق التلويح حين قالوا: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ}. يشيرون إلى اختيار الحرب، ثم أوكلوا الأمر إليها بقولهم: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}؛ لأنها لم تفوض إليهم الحكم في القضية، وإنما طلبت منهم أن يصرحوا بآرائهم، ويبوحوا بأفكارهم فقط، بدليل قولها: {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}؛ أي: إلا بمحضركم، وقولها: {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي}؛ أي: اذكروا ما تستصوبون فيه، ولأنها زيفت رأيهم، وأشعرتهم

الصفحة 19