كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 4/ 2)

قالوا: تبعث في الفؤاد سروراً، قلنا: تبعث في هيئة حركاتهم كياسة تسر الناظرين، أما ما زعمتموه من مسرتكم، فضرب من التوسع في الخيال؛ إذ السراء التي يتطلبها الخاطر، ويهنأ لها ارتياحاً: ما كانت ناشئة عن موجب يشمله الوجود.
ولا ننسى أن كثيراً من الشعراء قد طغى بهم الإبداع في المقال إلى أن نسقوا في مديح الخمر صفات الجمال، وضربوا للتنويه بشأنها الأمثال، فاستهووا لمعاقرتها عبيد الخيال، والشعراء يتبعهم الغاوون.
فالإسلام وإن عُني بتزكية الأرواح، وترقيتها في مراقي الفلاح، لم يبخس الحواس حقها، وقضى للأجسام لبانتها من الزينة واللذة بالقسطاس المستقيم.
روي أن عبد الله بن أبي السمط أنشد بين يدي المأمون أبياتاً يمتدحه بها، فلما انتهى عند قوله:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلاً ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيلُ
قال له المأمون: ما زدت على أن جعلتني عجوزاً في محراب، وبيدها سبحة، أعجزت أن تقول كما قال جرير في عمر بن عبد العزيز؟:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغلُه
وقد كان المتعبّدون من قبل يترهبون بالتخلي عن أشغال الدنيا، وترك ملاذها، والعزلة عن أهلها، وتعمد مشاقها، فنفاها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونهى المسلمين عنها، فقال: "لا رهبانية في الإسلام". وتدبَّر إن شئت قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف 31]؛ فقد تبين بهذه الآية أن الزينة من علائق العبادة، غير منافية لها، وأن العبادة

الصفحة 32