كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 4/ 2)

ولما كانت الرشوة عقبة كؤوداً في سبيل الحرية، أخذت الشريعة في تحريمها بالتي هي أحوط. فلا يسوغ للقاضي قبول الهدية إلا من خواص قرابته؛ كيلا تزل به مدرجتها إلى أكل الرشوة، أو يتخذ اسم الهدية غطاء للرشوة يسترها به عن أعين المراقبين لأحواله السرية، وردّ عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - الهدية، فقيل له: كان النبي - رضي الله عنه - يقبلها، فقال: كانت له هدية، ولنا رشوة؛ لأنه كان يتقرب إليه لنبوته، لا لولايته، ونحن يتقرب بها إلينا لولايتنا.
ولم يكتف الشارع الحكيم في النهي عن اغتصاب الأموال واختلاسها بما قرع به الأسماع من الزواجر الكلية، فأردفها بتعليمات عمرانية في مواضيع غامضة تقصر عقول البشر عن إداركها بدون توقيف وتعليم؛ مثل: المعاملة بالربا، فقد يتوهم سلامتها من أكل المال باطلاً، وهي معدودة في قبيله، غير خارجة عن معناه.
يوافق الربا الاغتصاب في أن الزائد على رأس المال أُخذ بغير عوض يقابله، ولم تطب له نفس الدافع، ولا سمح به خاطره، ولكن الحاجة هنا ألجأت إلى إعطائه كما تلجئ سلطة الغاصب إلى تسليم المال في الغصب الصريح، وهو بهذا الاعتبار ذريعة لاستيلاء الموسرين على تراث أهل الخصاصة، وامتصاص أموالهم التي هي بمنزلة الدم لحياتهم شيئاً فشيئاً، ويقطع سبباً وثيقاً ترتبط به القلوب رحمة وإخاء، وهو السلف مثلاً بمثل، فضلاً عما يبذره في نفوس أهل الثروة من ألفة البطالة، والتقاعد عن الصنائع والمعاملات التجارية، ولم تتقدم الأمم المستحلة للربا في حياتها المدنية بارتكاب مطيته العشواء أخذاً وإعطاء، وإنما منبع ثروتها ورفاهية حالها عقد المبادلات التجارية، والإقبال على الفلاحة والصنائع واستنزاف المعادن، والمعاملة بالربا

الصفحة 35