كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 4/ 2)

على مثل هذا الوجه لم يكن مخطئاً، فالرغبة في الحياة تضاهي كراهتها في رجوعها إلى أمر خارج عن حقيقتها، ولكنه يرد من ناحيتها، وينال بواسطتها.
وإذا علمت نفس طاب عنصرها، وشرف وجدانها: أن مطمح الهمم إنما هي غاية وحياة وراء حياتها الطبيعية، لم تقف بسعيها عند حد غذاء يقوتها، وكساء يسترها، ومسكن تأوي إليه، بل لا تستفيق جهدها، ويطمئن بها قرارها، إلا إذا بلغت مجداً شامخاً يصعد بها إلى أن تختلط بكواكب الجوزاء. قال امرؤ القيس:
ولو أنما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثلٍ ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي
فقوله: ولم أطلب، جملة اعترض بها بين الفعل وفاعله، وفائدتها: تحقير شأن المعيشة، وتبرئة سعيه من أن يفضيَ الطلب إلى ما هو أدنى، فإنها مما يحصل بغير طلب ولا عناء، وإنما الذي يحتاج إلى الطلب: هو المجد المؤثل، ولا يدركه إلا العظماء من الناس.
وقد يسلب من الساعي اختياره، وينزع عزيمته عن العمل سلطة قاهرة، تسند هذه السلطة تارة إلى القدر المحتوم، والبحث عنها في هذا المقام لا يلتئم بالغرض الذي نرمي إليه، وتسند آونة إلى أفراد لم تصبغ أخلاقهم بتربية صحيحة، شأن الأمم المتوحشة، يستهوي بها حب الاستئثار بالمنافع، والنفيس من الفوائد، إلى أن ينسل أولو القوة منها نحو أموال الذين استضعفوا، ويصولوا عليها صيال الوحوش الضارية، ثم ينصرفوا بها إلى مساكنهم غير متحرّجين من أوزارها، كأنما انصرفوا بتراث آبائهم وأمهاتهم، أو خصّهم الله بما خلق

الصفحة 8