كتاب الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

269 - حدثني محمد، قال: حدثني عمر بن حفص، قال: حدثني سكين بن مكين، هذا قال: لما مات وراد العجلي، فحملوه إلى حفرته، نزلوا ليدلوه في حفرته، فإذا القبر مفروش بالريحان, فأخذ بعض القوم الذين نزلوا القبر من ذلك الريحان شيئا، فمكث سبعين يوما طريا, لا يتغير، يغدو الناس ويروحون, ينظرون إليه, قال: وكثر الناس في ذلك، حتى خاف الأمير أن يفتن الناس, فأرسل إلى الرجل، فأخذ ذلك الريحان، وفرق الناس, ففقده الأمير من منزله, لا يدري كيف ذهب.
270 - حدثني محمد، قال: حدثني مخول، قال: جاءني بهيم يوما, فقال لي: تعلم لي رجلا من جيرانك, أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرافقني؟ قلت: نعم, فذهبت إلى رجل من الحي, له صلاح ودين، فجمعت بينهما، وتواطآ على المرافقة, ثم انطلق بهيم إلى أهله، فلما كان بعد، أتاني الرجل, فقال: يا هذا، أحب أن تزوي عني صاحبك, وتطلب رفيقا غيري, فقلت: ويحك, فلم؟ فوالله ما أعلم في الكوفة له نظيرا في حسن الخلق والاحتمال، ولقد ركبت معه البحر, فلم أر إلا خيرا, قال: ويحك, حدثت أنه طويل البكاء, لا يكاد يفتر، فهذا ينغص علينا العيش سفرنا كله, قال: قلت: ويحك, إنما يكون البكاء أحيانا عند التذكر، يرق القلب, فيبكي الرجل، أو ما تبكي أحيانا؟ قال: بلى، ولكن قد بلغني عنه أمر عظيم جدا من كثرة بكائه, قال: قلت: اصحبه، فلعلك أن تنتفع به, قال: أستخير الله, فلما كان اليوم الذي أراد أن يخرجا فيه، جيء بالإبل، ووطئ لهما، فجلس بهيم في ظل حائط، فوضع يده تحت لحيته، وجعلت دموعه تسيل على خديه، ثم على لحيته، ثم على صدره، حتى والله رأيت دموعه على الأرض, قال: فقال لي صاحبي: يا مخول, قد ابتدأ صاحبك، ليس هذا لي برفيق, قال: قلت: ارفق، لعله ذكر عياله ومفارقته إياهم فرق, وسمعها بهيم, فقال: والله يا أخي ما هو ذاك، وما هو إلا أني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة, قال: وعلا صوته بالنحيب, قال لي صاحبي: والله ما هي بأول عداوتك لي, أو بغضك إياي، أنا ما لي ولبهيم؟ إنما كان ينبغي أن ترافق بين بهيم وبين ذواد بن علبة, وداود الطائي، وسلام أبي الأحوص، حتى يبكي بعضهم إلى بعض، حتى يشتفوا, أو يموتوا جميعا, قال: فلم أزل أرفق به، وقلت: ويحك لعلها خير سفرة سافرتها, قال: وكان طويل الحج، رجلا صالحا، إلا أنه كان رجلا تاجرا موسرا، مقبلا على شأنه، لم يكن صاحب حزن ولا بكاء, قال: فقال لي: قد وقعت مرتي هذه، ولعلها أن تكون خيرا, قال: وكل هذا الكلام لا يعلم به بهيم، ولو علم بشيء منه ما صحبه, قال: فخرجا جميعا، حتى حجا ورجعا، ما يرى كل واحد منهما أن له أخا غير صاحبه, فلما جئت أسلم على جاري, قال: جزاك الله يا أخي عني خيرا، ما ظننت أن في هذا الخلق مثل أبي بكر؛ كان والله يتفضل علي في النفقة وهو معدم, وأنا موسر، ويتفضل علي في الخدمة, وأنا شاب قوي, وهو شيخ ضعيف، ويطبخ لي, وأنا مفطر وهو صائم, قال: قلت: فكيف كان أمرك معه في الذي كنت تكرهه من طول بكائه؟ قال: ألفت والله ذلك البكاء، وسر قلبي, حتى كنت أساعده عليه، حتى تأذى بنا أهل الرفقة, قال: ثم والله ألفوا ذلك، فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا، وجعل بعضهم يقول لبعض: ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منا والمصير واحد؟ قال: فجعلوا والله يبكون ونبكي, قال: ثم خرجت من عنده، فأتيت بهيما, فسلمت عليه، فقلت: كيف رأيت صاحبك؟ قال: كخير صاحب، كثير الذكر، طويل التلاوة للقرآن، سريع الدمعة، محتمل لهفوات الرفيق؛ فجزاك الله عني خيرا.

الصفحة 164